المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 [22] 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:12 AM
وهناك أمثلة عديدة على عمليات التدوير الأخرى، فعلى سبيل المثال، حينما كان بعض الشباب العادي يدخل السجن يتم تحويلهم إلى كوادر انتفاضية واعية وهو ما حوَّل السجون إلى أكاديميات لتخريج الثوار. ويقوم المنتفضون بتنظيم إضرابات داخل السجن تزيد التراحم. وحينما يخرج المسجون فإنه يعود بطلاً في الحي، نموذجاً انتفاضياً جديداً، ينظر له الأطفال والشباب والكهول. وهكذا يتحوَّل غيابه السابق في السجن إلى حضور ثري ينير العقول والقلوب (يُقال إن معظم العناصر القيادية من خريجي هذه الأكاديميات). والمساجين لا يختلفون هنا عن الشـهداء، إذ حـينما يسقط أحد المنتفضين شهيداً فهو يتحول إلى رصيد مضاف، ويؤخذ الجثمان لتقام الصلاة عليه، ويتحوَّل استشهاده بذلك إلى وسيلة من وسائل زيادة التماسك. فالشهيد هنا ليس طاقة مبددة وإنما طاقة جديدة تظل تسري في جسد الجماعة. كما أن الكفاح بالحجر يعني أن بوسع المنتفض أن يستخدم الحجر ويفر في الطرق الضيقة فيضمن لنفسه الاستمرار والبقاء في دورة الكفاح اليومي.

4 ـ نموذج التلاحم العضوي (شأنه شأن نموذج الحداثة المادية الغربية) مبني على النمو المستمر والمتصاعد وتعظيم مراكمة الطاقة واستهلاكها وتبديدها بل أحياناً تبديد المادة نفسها حتى يصل النموذج إلى الذروة، وهي نقطة الاشتعال (نهاية التاريخ). فهذا النموذج يذهب إلى أن تراكم الظروف الموضوعية وتصاعد التناقضات واحتدامها، سيولد حتماً وعياً ثورياً، وهذا سيؤدي بدوره إلى اندلاع الثورة. وعملية التراكم والنمو التي تتم، هي عملية عالمية تحدث في كل المجتمعات حسب النمط نفسه. فنمط التراكم والتناقض واحد، ومن هنا الاهتمام المفرط بالظروف الموضوعية العامة لا بالظروف الفريدة المحلية. والنماذج التراكمية ترى أن التصعيد الثوري لابد أن يأخذ شكل تصعيد رأسي لا أفقي، بمعنى حتمية أن يكون هناك تزايد دائم في احتدام التناقضات، وفي تصاعُد درجة الحرارة حتى تصل إلى درجة الاحتراق. ولذا أصبح الفكر الثوري مشغولاً بـ «تهيئة الظروف الموضوعية لنشوب الثورة» التي لم ينجح أحد في تهيئتها حتى الوقت الحاضر.

أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فيحتاج إلى قَدْر من الطاقة ولكنه لا يتجه نحو تعظيم مراكمتها واستهلاكها، وإنما يركز على استخدامها مع الحفاظ عليها وعلى مصادرها (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية). وهو نموذج يفضل التوازن على الصراع. ولذا فهو يجمع بين الطاقة الإنسانية (التقاط الحجر وإلقاؤه) والطاقة الطبيعية (الحجر نفسه).

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
ولأن النموذج الانتفاضي لا يتجه نحو النمو المستمر فهو لا يحاول أن يصل إلى الذروة، ولذا فهو يتوهج أحياناً ويخبو أحياناً أخرى. ولكنه لا ينطفئ أبداً ولا يشتعل أبداً. ويتضح هذا فيما نسميه التصعيد الأفقي، أي ابتداع أشكال جديدة من النضال هي استمرار للأشكال القائمة وربما تحسين لها ولكنها ليست تصعيداً كمياً لها. والتصعيد الأفقي يأخذ شكل زيادة الخبرة عند الجماعة البشرية الفلسطينية المنتفضة التي تعادل تزايد بطش العدو ومقدرته على محاربة الانتفاضة دون أن يشكل ذلك تزايداً في الحرارة ودون الإخلال بالإستراتيجية العامة للانتفاضة ـ أن تستمر في رفض العدو بشكل نشيط وفي إرسال الرسائل له: إننا كنا وما زلنا وسنكون.

وقد درَّب أهل الضفة والقطاع أنفسهم تماماً حتى أصبح بوسعهم أن ينجزوا في ساعتين أو ثلاث ما لا يستطيع غيرهم إنجازه إلا في يومين أو ثلاثة، وهذا يتطلب تدريب كل أفراد الجماعة على الحركة المنسقة وعلى توزيع الأدوار والوظائف توزيعاً دقيقاً. وقد أدى هذا إلى زيادة مقدرة الفلسطينيين على القيام بهذا العدد الهائل من الإضرابات والاحتجاجات دون أن يحترقوا. وقيادة الانتفاضة بقبولها فكرة السماح بفتح المحلات وغيرها من الخدمات لعدة ساعات تبيَّن أنها مدركة تماماً لضرورة تحريك كل أجزاء الجماعة الإنسانية وبشكل مستمر، ومن ثم لابد أن تلبي حاجاتهم الإنسانية كبشر، لابد أن يأكلوا ويشربوا ويفرحوا ويحزنوا. ولكنهم كبشر أيضاً يحققون إنسانيتهم من خلال انتفاضتهم فلا يسقطون في رتابة الزمان اليومية، ولا في آليته المبتذلة، إذ أنهم بعد عودتهـم من عند البقـال يضعون ما اشتروا من بضائع في زاوية الدار ثم يعانقون النجوم ويرشقون عدوهم بالحجارة. لقد ابتدع الفلسطينيون زماناً فلسطينياً للمكان الفلسطيني ـ هذا إذن هو الإنسان في زمن الانتفاضة، هذا هو الإنسان الذي أفلت من قبضة الزمن الرديء، وقد أنجز ذلك لا بتحطيم الزمان ونفسه (كبروميثيوس أو العنـقاء ـ كما يقول شـعراء الحداثة)، وإنما بتقبُّله كمعطى والعـمل من خلاله، وبزيادة الخبرة اليومية، ومن خلال التكاتف والتعاطف والتراحم. وماذا يستطيع العدو مهما بلغت كفاءته أن يفعل في مجابهة هذا؟
ومن الأمثلة الأخرى على التصعيد الأفقي أن المنتفضين لاحظوا أن جنود العدو كانوا يتعرفون على راشقي الحجارة عن طريق التراب العالق بأيديهم. فقام المنتفضون بتجنيد الأطفال الصغار ليحملوا فوطة مبللة يغسل راشق الحجارة بها يده بعد فراغه من فعله البطولي.

واستخدام الوزنة الحديدية بدلاً من الحجر، هو مثل ثالث على التصعيد الأفقي. والوزنة بالنسبة للحجر كالمدفعية الثقيلة بالنسبة للبندقية، فاستخدامها شكل من أشكال التصعيد ولا شك، ولكن مع هذا تظل الوزنة تنويعاً على الحجر. ويبدو أن إخفاء الوزنة أمر أسهل بكثير من إخفاء كمية من الحجارة، كما أنها لا تترك أثراً في يد صاحبها بعد أن يلقيها. إن زيادة الإبداع هنا لا يخل بالبنية العامة ولا يُشكِّل زيادة في الحرارة، كما أنه يفترض إمكانية تجنيد كل عناصر الجماعة. ولنتخيل شعور الطفل الذي يحمل الفوطة المبللة ومدى إحساسه بالكرامة حينما يعود إلى منزله ليحكي لأمه ولأبيه ما فعل فتزداد درجة التماسك والتراحم في الجماعة الفلسطينية.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
ثمة مؤشرات أخرى على زيادة كفاءة الجماعة الفلسطينية في الانتفاضة، فعلى سبيل المثال عندما بدأت الانتفاضة كان بعض راشقي الحجارة يلجأون إلى مدارس البنات للهرب من المطاردين الإسرائيليين، فكانت البنات يصرخن بسبب فجائية الموقف، ولكن الجميع تعلَّم كيف يعزف لحن الانتفاضة المستمر. ولذا فحينما كان أحد المنتفضين يدخل مدرسة بنات فإن الجميع كن يتحركن بتلقائية متعمدة ويختفي المنتفض. وقد يظهر المنتفض فجـأة أمام مكـتب إحدى الموظفات وبالتلقائية المتعمدة نفسها تعطيه شهادة حسن سلوك لأخته التي حضر من أجلها، وليغوص العدو في هذا البحر الإنساني، إذ لا توجد آلة واحدة قادرة على مساعدته في اجتيازه.

5 ـ يتطلب نموذج التلاحم العضوي حداً أقصى من التنظيم والترشيد الكامل في إطار القانون العام والتطبيق الصارم له. فيتم التنسيق الكامل بين الأجزاء المختلفة. ولذا لابد أن تكون كل العناصر متجانسة، ولابد أن تذعن للقانون العام والسلطة المركزية وتتسم بالخضوع للأطروحات الثورية العلمية الدقيقة.


أما في حالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن الترشيد الكامل لا يكون ضرورياً، بل قد يكون على العكس ضاراً، إذ أن الترشيد يعني تطبيق قانون واحد على الجميع، أو مجموعة من القواعد المختلفة ينتظمها قانون واحد، وهذا يتعارض مع تنوُّع الأجزاء وتفاوت السرعات. ونموذج التكامل غير العضوي قد لا يعمل بنفس المستوى من الكفاءة ولا على نفس القدر من السرعة التي يعمل بها نموذج التكامل العضوي، ولكنه قادر على أن يعمل بسرعات متفاوتة في الوقت نفسه بسبب عدم وجود تنسيق صارم بين الأجزاء المختلفة (إذ يحتفظ كلٌّ بشخصيته إلى حدٍّ ما). وهو بسبب مساميته وليونته يتمتع بإمكانية الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى اليمين أو إلى اليسار. بل يمكن أن تتحرك بعض أجزائه إلى الأمام وتتحرك بعض أجزائه الأخرى إلى الخلف، حسب الظروف. ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه بينما تتوقـف الأجزاء الأخرى، ولذا فمـقدرته على تعبئة الجماهير، رغم عدم تجانسها، عالية.

وهذا ما فعلته الانتفاضة من خلال تجنيدها الكتلة البشرية (من كل الأعمار والطبقات والانتماءات الإثنية والدينية) في الأراضي المحتلة وتحريكها جميعاً في وقت واحد، في فترات مختلفة، وحسب مقدرة كل قطاع داخل هذه الكتلة على الحركة. ولم تكن الحركة دائمة متجانسة، وإنما كانت متقطعة غير متجانسة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
وقد تركت الانتفاضة بسبب عدم التزامها بقانون مجرد واحد مجالاً واسعاً للإبداع الشخصي وحوَّلت الارتجال إلى شكل مهم من أشكال النضال الإبداعي الذي يمكن استيعابه داخل التخطيط المركزي الفضفاض. والنضال بالحجر لا يتطلب درجة عالية من الترشيد ومن ثم لا توجد ضرورة لدورات توعية أو حلقات تدريب ولا درجات عالية من التثوير والتسييس.

6 ـ نموذج التلاحم العضوي بسبب تماسكه العضوي وصلابته وافتقاده إلى المسامية والفضفاضية قادر على الحركة في ظروف مثالية وحسب، وفي اتجاه واحد وحسب ـ دائماً إلى الأمام. ولكنه بسبب هذا نجده غير قادر على التوقف، وفي الوقت نفسه مهدَّد بالتوقف الكامل إن لم تتوافر له الظروف المثالية، أي ظروف التحكم الكامل والتجانس الكامل والترشيد الكامل.

قد لا يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته على الحركة السريعة والدائبة والمستمرة ولكنه يعوِّض هذا بمقدرته على التحكم في الإيقاع العام وفي توظيفه بما يتفق مع المنحنى الخاص لواقعه. وقد أدرك المنتفضون طبيعة واقعهم، وهو أنهم يعيشون تحت وطأة نظام عسكري شرس ذي ادعاءات ديموقراطية تتمتع بتأييد الحكومات والصحافة الغربية. ولذا كان المنتفضون يقومون بمضايقة العدو وإلحاق الألم والأذى به. ولكن الحجر ليس قاتلاً، وقد فوَّت هذا على عدوهم فرصة استخدام آلته العسكرية إلا بحذر شديد (وبخاصة في وجود وسائل الإعلام). ولذا يمكن القول بأن النموذج الانتفاضي يقف بين النموذج الفيتنامي (القتال المسلح) والنموذج الغاندي (العصيان المدني السلمي)، ومع هذا بوسع النموذج الانتفاضي أن يتحرك في نطاقهما إن لزم الأمر.

كما يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته الفائقة على التحرك والاستمرار تحت معظم الظروف، وعلى الاستمرار بعد الانقطاع، وهذا ما حققته الانتفاضة، فهي أطول حركة عصيان مدني نشيط في التاريخ. لقد استمرت الانتفاضة وأنهكت العدو تماماً، حتى أن التفكير الإستراتيجي الإسـرائيلي توصَّل إلى اقتناع مفاده أنه لن يمكن القـضاء على الانتفاضة إلا عـن طريق الالتفاف حولها، ومن هنا مدريد ثم أوسلو.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
وقد صرَّح اللواء حسن البدري مؤرخ الجيش المصري، وأحد أهم مفكريه الإستراتيجيين، أن الجيش النظامي الذي يستمر في قمع العصيان المدني لمدة أكثر من عام يفقد مقدرته على القتال وينعدم فيه «الضبط والربط» وأن هذا ما حدث في فلسطين المحتلة. كما أضاف قائلاً إن حركة العصيان المدني التي تستمر لمدة أكثر من ست سنوات يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأنها تكون قد شيدت كل المؤسسات البديلة لإدارة المجتمع، أي أن الانتفاضة بهذا المعنى كانت انتصاراً لفكرة المجتمع الأهلي مقابل الدولة المركزية. واندلاع الانتفاضة الثانية دليل آخر على مقدرة النموذج الانتفاضي على الاستمرار بعد التوقف وعلى التأجج بعد الراحة.

7 ـ يتسم نموذج التكامل العضوي بالثنائية الصلبة، فالمركز قوي أما الأطراف فضعيفة، ولذا فالتنظيم يتسم بالهرمية الصلبة؛ نخبـة طليعية مسلحة بالنظرية الثورية تتمتع بوعي ثوري عال، وجماهير تابعـة ينظمها الحزب الثوري (طليعة الطبقة العاملة!) ويقودها إلى أرض الميعاد. ولذا لا يمكن تخيُّل الثورة بدون النظرية الثورية أو الحزب الثوري: ثمة حاجة إلى مركز قوي وفعال، لا يستطيع النموذج التحرك بدونه. ولكن، إن أصاب المركز خلل، تبعثرت الأطراف تماماً وانتقل من الثنائية الصلبة إلى السيولة الشاملة وتحوَّل الهرم المدبب إلى شيء مسطح لا مركز له ولا قـوام. أما في حـالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن المركز لا يكون بالضرورة أقوى من الأطراف، ولذا يكون التنظيم شبه هرمي، قمته ليست مدببة ولا حادة، والقيادة لا تمسك كل الأمور بيدها ولا تسبق الجماهير وإنما تسير في وسطها جنباً إلى جنب، كما هو الحال في المجتمعات التقليدية التي لا تعطي أهمية مطلقة للنخبة أو الدولة إذ تتم الإدارة من خلال عدد هائل من المؤسسات الأهلية والوسيطة (الأسرة، ـ علاقات القرابة ـ الأوقاف... إلخ)، ومن خلال النصح والإرشاد وقدر من الإجماع. وإن حدث شيء للمركز فلن يؤثر كثيراً في الأطـراف إذ لا يخـتلف المركز عن الأطـراف كثيراً. والأطراف، شأنها شأن كل الأجزاء، لها شخصيتها المستقلة، أما وتيرة حركتها فينظمها المركز ولكنها مستقلة عنه ولها تموجاتها المختلفة ومنحنياتها الخاصة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
هذا التماسك بين أفراد الجماعة يمكِّنها من الاستمرار في الأداء دون توجيه يومي من القيادة ودون رقابة حزبية صارمة (دون انضباط حزبي كما يُقـال في الخطاب الثوري) وهذه هي طريقة التنظـيم في الانتفاضة، فالنضـال بالحجر لا يتطلـب عملية تنظيم مركزية أو قيادة قوية، فرغم وجود القيادة المركزية إلا أن الأطراف ظلت قوية. فحينما يتم القبض على أحد القادة فإن الجماعة تبذل قصارى جهدها لإثبات أنه ليس القائد الفعلي وذلك عن طريق الاستمرار في النضال وتصعيده. ومن هنا يصبح القبض على القائد عنصراً يزيد التلاحم والتماسك والتراحم بدلاً من أن يكون عنصر تآكُل وتراجُع. بل إنه في كثير من الأحيان، ونتيجة تحسُّن الأداء، كان العدو يستنتج أنه لم يتم إلقاء القبض على القائد الحقيقي ويعود للبحث عنه.

ومن المفارقات، أن تماسك الجماعة وفعالية كل أفرادها جعلها أكثر قدرة على اختيار العناصر القيادية الأكثر كفاءة، لأنه إذا كان الجميع يعرف الجميع وإذا كان الطفل والشاب والعجوز يتكاتفون، فمن خلال الممارسة اليومية تسهُل معرفة العناصر الأكثر حركية وانتفاضاً فتصعد لمرتبة القيادة. فالتماسك هنا لم يجعل القيادة مهمة، ولكنه ضمن في الوقت نفسه وصول العناصر البشرية الأكثر إبداعاً وانتفاضاً إلى مركز القيادة!

وقد اهتم المنتفضون، انطلاقاً من نزعتهم التراثية، أيما اهتمام بالأغاني الشعبية والتراث الشعبي في نضالهم واحتجاجهم، ولكن إبداعهم التراثي وصل إلى ذروته وعبَّر النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض، عن نفسه خير تعبير فيما سميته «حيلة البطيخة». فمن المعروف أن قوات الاحتلال الصهيوني كانت تُحرِّم على الفلسطينيين أن يرفعوا العلم الفلسطيني وتُجرِّم هذا الفعل. ولذا بدلاً من المواجهة المباشرة كان الفلسطينيون، عند مرور القوات الصهيونية، يقومون بقطع بطيخة إلى نصفين ثم يرفعون أحد النصفين، وكل لبيب بالإشارة يفهم. فألوان البطيخـة المقطـوعة حـمراء وقشرتها خضـراء وبيضاء وبذورها سوداء، وهي ألوان العلم الفلسطيني. ولعل عملية قطع البطيخة نفسها تذكر الجندي الصهيوني بأشياء أخرى يخافها. إن قطع البطيخة المتعـينة أكثر عـمقاً في مدلوله من مجرد رفع العلم المجرد. وهو سلاح مبتكر تماماً يوجد عند الفكهاني في أي وقت، وليس بإمكان العدو مصادرته وإن فعل يصبح أضحوكة أمام العالم. وهو سلاح اقتصادي تماماً يمكن تدويره (بالإنجليزية: ريسياكلنج recycling)! يستطيع المجاهد أن يأكله بعد أن يناضل به. ويستطيع الجميع استخدام سلاح البطيخة من سن السابعة إلى سن السابعة والسبعين. وهو أيضاً سلاح يستفز العدو دون أن يعطيه فرصة للبطـش. وهو في نهاية الأمـر تعبير عن الهوية: حلبة الصراع الحقيقية. والبطيخ سلاح شعبي مائة في المائة، ولا أعتقد أن من يأكل الهامبورجر كثيراً ويسمع الديسكو طويلاً قادر على أن يستخدم البطيخة كعلم فلسطين، والأغنية كنظرية ثورية، والحجر كسلاح.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
هذا هو «نحو» الانتفاضة، وهذه هي «قواعدها»، وما أشكال الإبداع الانتفاضية الأخرى إلا تنويعات أو جُمَل تم توليدها على هذا النحو. فسلاح إشعال النار في الغابات يتسم (تماماً كالحجر) بأن لا يحتاج لسلاح مستورد، ولا لمستوى تنظيمي عال ويحقق درجة عالية من إمكانية البقاء. ويمكن تحسين هذا السلاح من داخل النسق التقليدي إذ يقوم المنتفضون بسرقة حمام من مزارع الإسرائيليين ثم يزودونه بفيلينة تشعل الحرائق ويطلقونه ليعود ـ كما تملي عليه غريزته ـ إلى منطقة سكناه، وفي الطريق يشعل الحرائق! ولعل حادثة الحافلة التي بثت الرعب في نفوس المستوطنين شكل آخر من النضال الانتفاضي الذي يعبر عن نموذج التكامل الفضفاض، إذ قام أحد المنتفضين وبيديه العاريتين بدفع سـائق الحافلة فسـقط الجميع في الوادي وتناثرت أشـلاء العدو، فهي فعل تم بمبادرة شخصية وجهد إبداعي فردي، ولذا لم تتمكن الاستخبارات من ضربه، وهو مع هذا جزء ينسجم تماماً مع الكل (الانتفاضة) ويخدم أهدافه!

وقد تركت الانتفاضة أعمق الأثر في أطراف الصراع، أما بالنسبة للفلسطينيين والعرب فقد نزعت الانتفاضة عنصر الخوف من القلوب وأثبتت أن بالإمكان إلحاق الهزيمة بالعدو الذي كان يظن أنه لا يُقهَر، هذا لو نفضنا عن أنفسنا التبعية الإدراكية وتعاملنا مع واقعنا من خلال النماذج الخاصة بنا، بل إن بوسعنا ـ لو شئنا ـ أن نولِّد من الانتفاضة ـ باعتبارها نموذجاً معرفياً ـ نماذج تنموية جديدة مختلفة عن النماذج (العضوية التراكمية) السائدة، فالانتفاضة اكتشفت شيئاً ما داخل الإنسان العربي وحرَّكته، وهو الأمر الذي لم تنجزه أية حركة فكرية أو سياسية أخرى من قبل.

أما على الصعيد الدولي فقد أسقطت الانتفاضة قناع إسرائيل الديموقراطي وأصبح من العسير الحديث عن التراث اليهودي ـ المسيحي والتقاليد الليبرالية وما شابه من ديباجات طريفة أحرزت شيوعاً في العالم الغربي بين البسطاء ورجال الصحافة والإعلام.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:13 AM
أما بالنسبة للصهاينة فعُمْق أثر الانتفاضة في التجمع الصهيوني يفوق الوصف. فالانتفاضة عمَّقت جوانب أزمة المجتمع الصهيوني سواء في المجالين الاقتصادي أو السياسي. وتعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية يترجم نفسه إلى مزيد من الاعتماد على الولايات المتحدة وتآكل السيادة الاقتصادية والسياسية، ومن ثم ازدادت طفيلية التجمُّع الصهيوني وازداد التفسخ الاجتماعي فيه.

ولكن الأهم من هذا، أن الانتفاضة زعزعت دور إسرائيل كوسيط، فالدولة الصهيونية كانت تطرح نفسها على أنها استثمار ليس ذا عائد اقتصادي كبير ولكنه ذو عائد إستراتيجي مرتفع (فهي حاملة طائرات أمريكية زهيدة التكاليف)، ولكن الانتفاضة بيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدولة الصهيونية مكلفة من النواحي الإعلامية والاقتصادية والسياسية، وأنها قد يمكنها القيام بعمليات إجهاضية سريعة (دور الفتوة) أو أن تضرب في العمق العربي، ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي فهي إن كانت غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي ضد الشباب من حملة الحجارة، فكيف يمكنها أن تحافظ على السلام الأمريكي من باكستان إلى المغرب، كما كانت تزعم. ومع استمرار الانتفاضة وعجز المؤسسة الصهيونية عن إطفاء نورها ونيرانها، ومع تزايد تماسك المجاهدين الفلسطينيين اكتشف الصهاينة أن دورهم التقليدي كشرطي للمنطقة لم يعد ممكناً، وأن محاولة ضرب الانتفاضة من خارجها لن تفلح، ومن هنا بدأت إسرائيل تطرح نفسها على أنها عدو الأصولية الإسلامية ليمكنها دخول تحالف مع الحكومات العربية ضد الروح الجهادية، ومن هنا توقيع اتفاقيات السلام والإلحاح على ضرورة رفع المقاطعة العربية حتى تلعب إسرائيل دوراً اقتصادياً يحل محل دورها العسكري القديم أو يكمله، بهذه الطريقة تحل الدولة الصهيونية أزمتها تجاه الدول الغربية الراعية لها وتكون قد توصَّلت إلى طريقة لضرب الانتفاضة من الداخل.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
ولكن أهم آثار الانتفاضة بغض النظر عن نتائجها العملية والمباشرة أنها أصابت الحلم الصهيوني في مقتل، فالمستوطن الصهيوني الذي كان يستند وجوده وإحساسه بالأمن الداخلي إلى وهم الإيمان بأن العرب ـ في نهاية المطاف ـ سيخضعون ويقبلون الأمر الواقع، قد رأى المقهورين، وهم يهبون ـ فجأة من وجهة نظره ـ ويلقون الأحجار عليه في انتفاضة اشترك فيها الجميع حرفياً. ولذا بدلاً من الأحلام الوردية المتمركزة حول البيت الفاخر الذي توجد على أطرافه العمالة العربية الرخيصة، توجد كوابيس مظلمة يقف في وسطها طفل ممسك بحجر، ومن ثم بدأ المُستوطن الصهيوني يتساءل ـ ولأول مرة ـ لا عن الخلل الذي يمكن إصلاحه، وإنما عن شرعية وجوده نفسها، وبهذا تكون الانتفاضة قد استعادت للصراع العربي الإسرائيلي أبعاده الحقيقية، ورغم كل المحاولات الحالية الرامية لتحويل قضية الصراع العربي الإسرائيلي إلى قضية إجرائية متصلة بالممرات وفرق المطافئ وبضعة كيلو مترات، فإن اندلاع الانتفاضة يؤكد أن القضية أكثر شمولاً وعمقاً، وأن جهادنا ليس من أجل هذا الشيء أو ذلك، وإنما من أجل هوية هذه المنطقة ومن أجل قيمها ومستقبلها.

إن الانتفاضة ليست حركة عصيان مدني لتحرير فلسطين أو الشعب العربي وإنما هي نموذج متكامل ورؤية للكون يمكن استخدامها في إدارة المجتمع العربي بطريقة تفجِّر الإمكانات الثورية والإبداعية لدى الجماهير. وهذا ما فشلت فيه كل من الحركات الثورية العربية وأعضاء النخب الحاكمة. فإنجاز الانتفاضة إنجاز لنا جميعاً نحن أبناء الشعب العربي والشعوب الإسلامية، وهو طريقة للجهاد ذات فعالية عالية. ولعل عودة الانتفاضة ونشاطها بعد سكوتها، يعني أن نموذج الجهاد لا يموت، فهي قد تهدأ قليلاً لتراقب ما يحدث، لتعود حية شامخة، كالنجم الساطع في سمائنا التي لا يتلألأ فيها كثير من النجوم.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
المؤشر بين النماذج الاختزالية والمركبة
كلمة «المؤشِّر» من فعل «أشَّر»، وهو من الألفاظ العربية المحدثة، وتقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة «إنديكيتور indicator». والمؤشِّر هو عادةً جسم متحرك (إبرة أو عقرب) يتحرك على سطح به مقياس. وتدل حركة المؤشِّر على التحولات التي تطرأ على شيء آخر، فالإبرة التي تُوجَد في عداد السرعة في السيارة تدل على السرعة، أما الإبرة التي تُوجَد في جهاز قياس الضغط، فتدل على الضغط، وتدل عقارب الساعة على الزمن. ويُلاحَظ أنه تُوجَد هنا علاقة بين شيئين: جسم مادي يشاهده المرء بشكل مباشر، وشيء آخر غير منظور يجرى قياسه مثل السرعة والزمن وضغط الدم في الإنسان أو الضغط الجوي.

وتُستخدَم كلمة «مؤشِّر» في العلوم الإنسانية لنفس الهدف. فالمؤشِّر عنصر ما في الواقع تمكن ملاحظته بسهولة، والتحولات التي تطرأ عليه تدل على التحولات التي تطرأ على مفهوم مجرد. وبسبب هذه العلاقة يمكن جمع المعلومات والبيانات عن المفاهيم المجردة (الطبقة ـ المكانة ـ الأسرة) من خلال المؤشِّر بحيث يتعمق إدراكنا لكل هذه المناهج وبنيتها، كما يمكن رصد التحولات التي تطرأ عليها.

ويتراءى للبعض أن علاقة المؤشِّر بالواقع مباشرة تماماً تشبه علاقة العقل بالواقع أو علاقته بالمعلومات، وذلك في الرؤى الموضوعية المتلقية المادية (صفحة بيضاء تنطبع عليها معطيات الواقع الحسية دون تَدخُّل الرؤى والرموز والذكريات والإرادة والمقدرة والمصالح على خداع الذات وتجاوزها)، كما تشبه علاقة المثير بالاستجابة في النماذج السلوكية إذ لا توجد مسافة تفصل بين الواحد والآخر. ولكن المؤشِّر لا يتحرك في فراغ أو على صفحة بيضاء، فهو مرتبط دائماً بالنموذج الإدراكي أو التفسيري الذي يحكم رؤية من يستخدم المؤشِّر، وقد يكون المؤشِّر تعبيراً عن نموذج مركب (ولنسمه «المؤشِّر المركب»)، ولذا فإن علاقته بالواقع ستكون مركبة لأنه يشـير إلى الواقع في مسـتوياته المختلفة الظـاهره والباطنة والبرانية والجـوانية وأبعاده المتنوعة دون اختصار أو اختزال. وهو سيدور في إطار رؤية تفسيرية اجتهادية تدرك تماماً أن معرفة بعض جوانب الواقع ممكنة، أما معرفة كل جوانب الواقع فأمر إمبريالي مستحيل. وقد يدور المؤشِّر في إطار نموذج اختزالي (ولنسمه «المؤشِّر الاختزالي») فتصبح مهمته اختزال الواقع. فالمؤشِّر الاختزالي ـ شأنه شأن النماذج الاختزالية ـ يتعامل مع الواقع (متضمناً الإنسان) باعتباره ظاهرة بسيطة واضحة، خاضعة للسببية الصلبة المباشرة الكاملة؛ الظاهر هو الباطن، والسطح لا يختلف عن الأعماق، والظاهر يكشف ما في الباطن بسهولة ويُسر، والسطح يشف عما تحته بدون عناء. والدوافع الإنسانية بسيطة واضحة يمكن رصدها، ولذا فإن الإنسان يسلك حسب نمط متكرر مسبق، ولذا يَسهُل التنبؤ بما سيفعل كما يتصور السلوكيون (وهم حالة متطرفة من أصحاب المؤشِّرات الاختزالية الكمية [المادية]). ويظن صاحب المؤشِّر الاختزالي أن مؤشِّره أو مؤشِّراته يقينية نهائية صلبة وما عليه إلا أن يتسلح بها وينظر للواقع بشكل موضوعي محايد (متجاهلاً السياقات المركبة المتداخلة والأبعاد التاريخية والتركيبات النفسية والرموز متعددة الأوجه). وهو عادةً ما يحوِّل الكيف إلى كمّ، بل إنه يدرك الكيف باعتباره كماً (فعلم اجتماع عشة الدجاج لا يختلف بالنسبة له عن علم اجتماع المنزل الإنساني) ثم يعبئ جداوله التي لا تنتهي بالبيانات وهو فطن دائماً إلى أنه أحاط بكل جوانب الواقع وشرحه تماماً بشكل موضوعي باهر.