المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 [9] 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 05:11 AM
ونحن نضع في مقابل الإنسان الطبيعي الإنسان الإنسان، وهو إنسان غير طبيعي/مادي يحوي داخله عناصر (ربانية) متجاوزة لقوانين الحركة (التي تسري على الإنسان والحيوانات) ومتجاوزة للنظام الطبيعي/ المادي. وهذه العناصر هي التي تشكل جوهر الإنسان والسمة الإنسانية لإنسانيته وتفصله عن بقية الكائنات وتُميِّزه كإنسان. فالإنسان الإنسان (غير الطبيعي)، هو الإنسان الحق، أما الإنسان الطبيعي فهو الإنسان الذي لا يحوي جوهراً إنسانياً (ولذا فهو يمتزج بسهولة مع الكائنات الطبيعية ويتصف بصفاتها). فهو تعبير عن النزعة الجنينية والرغبة في فقدان الذات والحدود.

وهنا يطرح بيجوفيتش مفهوم ازدواجية الطبيعة الإنسانية التي "جاء أحد جانبيها من الأرض (الطبيعة/المادة) وجاء الآخر من السماء". والوظائف البيولوجية والنشاطات الطبيعية (مثل الصيد وصنع الأدوات) هي التي جاءت من الأرض، أما النشاطات الأخرى (مثل الدين والفن) فهي ليست من سمات الإنسان الطبيعي وإنما من سمات الإنسان الإنسان، وهو كائن مركب متعدد الأبعاد، قَلق يسأل أسئلة كلية، يحمل عبء الهوية والمسئولية الخلقية، لا يمكن اختزاله في صيغ رياضية كمية كما لا يمكن رده في كليته إلى عالم الطبيعة/المادة وواحديته المادية، ولذا فهو يعيش ثنائية فضفاضة لا يمكن إلغاؤها.

الإنسان الاقتصادى والإنسان الجسمانى (الجنسى(
هناك ـ في تصوُّرنا ـ تنويعان أساسيان على فكرة الإنسان الطبيعي: الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني أو الجنسي.

1 ـ الإنسان الاقتصادي: إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة، وإنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج. وهو يعبِّر عن مبدأ المنفعة بحيث لا يعرف الإنسان سوى صالحه الاقتصادي، ولذا فهو إنسان يتسم بالتقشف والإنتاج وحب التراكم. وهو إنسان متحرر تماماً من القيمة (شأنه شأن الطبيعة) دوافعه الأساسية اقتصادية بسيطة، وتحركه القوانين الاقتصادية، وتحكمه حتمياتها (تماماً مثل الإنسان الطبيعي الذي يخضع لقوانين الطبيعة وحتميات القانون الطبيعي لا يملك تجاوزاً لها)، إنسان لا ينتمي إلى حضارة بعينها وإنما ينتمي إلى عالم الاقتصاد العام، وهو لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الاقتصادية، وهو يجيد نشاطاً واحداً هو البيع والشراء، وهذا هو إنسان ماركس وآدم سميث. ويُشار إلى هذا الإنسان في النظم الرأسمالية بأنه «دافع ضرائب»، أما في النظم الاشتراكية فيمكن أن يكون «بطل الإنتاج».

2 ـ الإنسان الجسماني أو الجنسي: إنسان فرويد وبافلوف الذي تحركه دوافعه الجنسية وغدده وجهازه العصبي. وهو يعبِّر عن مبدأ اللذة ولا يعرف سوى متعته ولذته؛ إنسان الاستهلاك والترف والتبذير؛ إنسان فرويد والسـلوكيين، وهو إنسان أحـادي البُعد خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة.

إن الإنسان الطبيعي هو نفسه الإنسان الاقتصادي، وهو نفسه الإنسان الجسماني، وقد تختلف المضامين ولكن البنية واحدة. ولو أننا وضعنا كلمة «اقتصاد» أو كلمة «جنس» بدلاً من كلمة «طبيعة» لظل كل شيء على ما هو عليه ولما غيَّرنا شيئاً من خطابنا.

وثنائية الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني تُعبِّر عن نفسها من خلال مرحلتين في تاريخ الاقتصاد العلماني: المرحلة التقشفية التراكمية وتليها المرحلة الفردوسية التي بدأت في العالم الرأسمالي في بداية القرن العشرين، وبدأت في شرق أوربا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت في العالم الثالث بين أعضاء النخب الحاكمة المتغربة. وما يسود الآن في المجتمعات الحديثة هو خليط بين الاثنين.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:11 AM
العقلانية المادية واللاعقلانية المادية
«العقلانية» هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة من بينها الحسابات المادية الصارمة دون استبعاد العاطفة والإلهام والحدس والوحي. والحقيقة حسب هذه الرؤية يمكن أن تكون حقيقة مادية بسيطة، أو حقيقة إنسانية مركبــة، أو حقــائق تشـكل انقطاعــاً في النظــام الطبيـعي. ومن ثم يستـطيع هذا العقل أن يدرك المعلوم وألا يرفض وجود المجهول. وهذا العقل يدرك تماماً أنه لا "يؤسِّس" نظماً أخلاقــية أو معـرفية، فهو يتلقَّى بعض الأفكار الأولية ويصوغها استناداً إلى منظومة أخلاقية ومعرفية مسبقة.

ولكن هناك من يذهب إلى أن العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده دون مساعدة من عـاطفة أو إلهـام أو وحي، وبأن الحقـيقة هي الحقيقة المادية المحضة التي يتلقاها العقل من خلال الحواس وحدها، وبأن العقل إن هو إلا جزء من هذه الحقيقة المادية فهو يُوجَد داخل حيز التجربة المادية محدوداً بحدودها (لا يمكنه تجاوزها)، وأنه بسبب ماديته هذه قادر على التفاعل مع الطبيعة/المادة يمكنه انطلاقاً منها (ومنها وحدها) أن "يؤسس" منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته ويمكنه على أساسها أن يفهم الماضي والحاضر ويفسرهما ويُرشِّد حاضره وواقعه ويخطط لمستقبله.

هذا يعني، في واقع الأمر، أن العقل عقل مادي يقوم بإعادة إنتاج العالم المادي من خلال مقولات الطبيعة/المادة وحسب (لا من خلال أية مقولات إنسانية). فيرصد الواقع باعتباره كماً وأرقاماً وسطحاً بسيطاً خالياً من الأسرار والتفاصيل المتناثرة. وهو عقل قادر على وصف ما هو عام ولكنه لا يستطيع أن يرصد ما هو خاص وفريد، وهو قادر على رصد ما هو كائن ولكنه غير قادر على إدراك ما ينبغي أن يكون، فـ «ما ينبغي» مقولة أخلاقية مثالية متجاوزة لعالم الطبيعة/المادة. ولذا، فإن العقل المادي يتعرف على الحقائق المادية فقط (يعرف ثمنها أو حجمها أو كثافتها، أي صفاتها المادية وحسب) ولكنه لا يعرف قيمتها، فالقيمة شيء متجاوز لعالم المادة. ومن ثم، لا يُوجَد بالنسـبة للعقـل المادي خير وشر أو عدل وظلم. وحتى إن أدرك العقل المادي قيمة شيء، فسرعان ما يرده إلى عالم المادة، فهو عقل تفكيكي عدمي قادر على تفكيك الأشياء ونزع القداسة عنها ولكنه غير قادر على تركيبها. وهو، لكل هذا، عقل لا يملك إلا أن يساوي بين الطبيعة/المادة والإنسان وأن يسوي بينهما، فيمحو ثنائية الإنسان والطبيعة لتسود الواحدية المادية، أي أن العقل المادي يصبح أداة الطبيعة/المادة في الهجوم على الإنسان بدلاً من أن يكون رمزاً لانفصاله عنها.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:11 AM
وقد يبدو هذا الحديث الفلسفي وكأنه غير ذي صلة بالتاريخ المتعيِّن. ولكن الأمر ليس كذلك، فهناك من يرى أن قيام النازية بإبادة الملايين (من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعوقين ومن المسنين) ممن صُـنِّفوا باعتبارهم "أفواهاً مستهلكة غير منتجة" (بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters) إنما هو أحد إنجازات العقلانية المادية التي "حرَّرت" النازية من أية أعباء أخلاقية مثالية (غير مادية) وتعاملت مع البشر بكفاءة بالغة وبمادية صارمة كما لو أنهم مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة/المادة، فمن يحيد عنها (مثل الأطفال المعوقين والرجال المسنين) لابد من التخلص منه في أسرع وقت وبأكثر الطرق كفاءة. أي أن العقل المادي هنا قام بتفكيك البـشر بصـرامة بالغة وكفاءة مدهـشة، ونظر للجـميع بعيون زجـاجية وكأنه كمبيوتر متألِّه، يبلغ الغاية في الذكاء، لا قلب له ولا روح، يُحيي ويُميت.

ويمكننا القول بأن هناك نمطاً من الحكام الإرهابيين الثوريين لا يختلفون كثيراً عن هتلر ويدورون في إطار العقلانية المادية؛ مثل روبسبيير الذي قام بتفكيك البشر في إطار «مصلحة الشعب» التي يقررها هو، فأباد الملايين من غير النافعين، ومثل ستالين الذي قام بتفكيكهم في إطار علاقات الإنتاج ومعدلات النمو فأباد ملايين الفلاحين (الكولاك) الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج المادية الحتمية. ويرى بعض مؤرخي الثورات التي تدور في إطار النماذج العقلانية المادية أن ظهور مثل هذا الكمبيوتر المتأله مسألة حتمية، وأنه قد يأخذ (بعد استقرار الثورة وتحوُّلها إلى مؤسسات) شكل لجان خبراء ومستشارين. بل يرون أن هذه ظاهرة حتمية لصيقة بالمجتمعات الحديثة التي تُعرِّف النمو والتقدم والإنسان من منظور عقلاني مادي، وأن التكنوقراطية ونظريات التلاقي ووحدة العلوم والاتجاه نحو التنميط والكوكلة والعولمة إنما هي تعبير عن هذا الاتجاه.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:12 AM
ويمكننا الآن أن نثير نقطتين أساسيتين تتصلان بالعقلانية المادية:

1 ـ نحن نذهب إلى أنه لا توجد علاقة ضرورية بين العقلانية والمادية، فهناك نظم سياسية مادية عقلانية وأخرى مادية لاعقلانية. فالنظام السياسي الأمريكي مبني على الفصل بين الدين والدولة فصلاً كاملاً، وقد نجح الأمريكيون، في بعض مراحل تاريخهم على الأقل، في تطوير نظام عقلاني يُعبِّر عن مطامح الشعب الأمريكي بشـكل معـقول. والنظام النازي، هو الآخر، كان نظـاماً مادياً شرساً في ماديته، ولكنه كان لاعقلانياً بصورة تامة، وكان يتحرك في إطار نظريته العرْقية الشمولية التي شكلت مرجعيته المادية الكامنة. والنظام الستاليني، كان هو الآخر نظاماً مادياً بشكل نماذجي، ولكن لا يمكن أن يزعم أحد أنه كان نظاماً عقلانياً. وهناك نظم عقلانية تستند إلى عقائد دينية يزخر بها تاريخ الإنسان.

2 ـ بل إننا نذهب إلى أن العقلانية المادية تؤدي في مراحلها المتقدمة إلى اللاعقلانية المادية وهذا ما سنتناوله في بقية هذا المدخل.

وقد أشرنا إلى أن العقل المادي عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب أو التجاوز. ويتضح هذا في أنه عقل قادر على إفراز قصص (نظريات) صغرى مرتبطة بفضائها الزماني والمكاني المباشر على أحسن تقدير (كما يقول دعاة ما بعد الحداثة)، أي أنه قادر على إفراز مجموعة من الأقوال التي لا شرعية لها خارج نطاقها المادي المباشر الضيق المحسوس (فالعقل المادي يُدرك الواقع بطريقة حسِّية مباشرة). ومن ثم فهو عقل عاجز عن إنتاج القصص الكبرى أو النظريات الشاملة عاجز عن التوصل للحقيقة الكلية المجردة التي تقع خارج نطاق التجريب. ولذا فالعقل المادي لا يُنكر الميتافيزيقا وحسب وإنما يُنكر الكليات تماماً وينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي لأنهما يتوهمان أنهما يتمتعان بقدر من الاستقلال عن حركة الطبيعة/المادة. وبذلك يختفي الإنسان كمرجعية نهائية بل يختفي مفهوم الطبيعة البشرية نفسه، ثم تختفي سائر المرجعيات وتصبح الإجراءات الشيء الوحيد المتفق عليه. وهكذا لا يتحرر العقل المادي من الأخلاق وحسب وإنما يتحرر من الكليات والهدف والغاية والعقل، ومن ثم تتحوَّل العقلانية المادية إلى لاعقلانية مادية.

وإذا كانت العقـلانية المـادية قد أفرزت فكر حـركة الاسـتنارة والوضعية المنطقية والكل المادي المتجاوز للإنسان، فقد أفرزت اللاعقلانية المادية: النيتشوية والوجودية والفينومينولوجية وهايدجر وما بعد الحداثة. والانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة هو الانتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب والعقلانية (في مرحلة المادية القديمة ومرحلة الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية المادية) إلى اللاعقلانية المادية التي تفصل بينهما، فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار (في مرحلة المادية الجديدة والسيولة الشاملة). وتسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محـضة ترفض الكـليات العقـلية )إنسـانية كانت أم مـادية) وتلتصق تماماً بالمادة وحركتها وعالم الحواس.

ومع هذا يمكن القول بأن العقلانية المادية كثيراً ما تتعايش مع اللاعقلانية المادية وترتبط بها. فالوضعية العلمية المنطقية تعبير عن العقلانية المادية حيث لا يؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام، ولكنها في الوقت نفسـه تعبير عـن اللاعقلانية المادية، فهي لا تشغل بالها بالكليات أو المنطلقـات الفلسـفية. وقد أشرنا إلى أن النازية، كما يراها بعض المؤرخين، هي قمة العقلانية المادية، ونحن نتفق معهم في هذا، ونضيف أن هذا لا يمنع أن تكون قمة اللاعقلانية المادية أيضاً، فهي تعبير عن تَبلور نزعة تجريبية محضة ترفـض الكليات الإنسانية والعقلية وأي شكل من أشكال الميتافيزيقا وتلتصق تماماً بحركة المادة وعالم الحواس، وتُمجِّد الإرادة الفردية على حساب أية مفاهيم إنسانية كلية. ولعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية، أي الداروينية الاجتماعية، هي تعبير عن هذا التعايش والترابط بين العقلانية واللاعقلانية المادية.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:12 AM
فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان
تؤكد العقلانية المادية عناصر التجانس والتكرار والكم والسببية والآلية، ولذا فهي تتسم بمقدرة عالية، نوعاً ما، على رصد حـركة الأشـياء ودراستها. فالعـقلانية المادية تتحـرك في إطـار الواحدية المادية التي تخضع لها الأشياء، أما الإنسـان فهو ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية. ولذا، فإن سلوكه، سواء في نُبله أو ضعته، في بطولته أو خساسـته، ليس ظاهرة مادية محضة وإنما ظاهرة مركبة لأقصى حد:

1 ـ فعقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي، حتى أننا نجد عالماً مثل تشومسكي ينكر تماماً أن عقل الإنسـان مجرد صفحة بيضاء سـلبية (وهو الافتراض الوحيد المتاح أمام الماديين) وإنما هو عقل نشيط يحوي أفكاراً كامنة فطرية. ولذا، نجد أن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة» باعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي وإنما لابد من تفسيرها في إطار نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية في عقل الطفل بما يعني أن العقل ليس مجرد المخ، مجموعة من الخلايا والأنزيمات. ويقدم جان بياجيه رؤية توليدية لتطور الإنسان وتطوُّر إحساسه بالزمان والمكان. وتزايد الاعتماد على النماذج التوليدية، مقابل النماذج التراكمية، هو دليل على تراجُع النموذج المادي.

2 ـ ثم نأتي إلى مشكلة الفكر. يدَّعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة أو أثر من آثارها (فالعقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية وتتحول إلى أفكار كلية بطريقة آلية). وهي مقولة قد تبدو معقولة ولكنها تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. والسؤال هو: لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في نفس الظروف؟ وهل الأفكار عصارات وأنزيمات تتحرك أم أنها شيء آخر؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية أو العاطفية؟ ولنأخذ فكرة مثل «السببية». المعطيات الحسية المادية غير مترابطة ولا علاقة لها بأية كليات، ومع هذا يُدرك العقل الواقع لا كوقائع متناثرة وإنما كجزئيات تنضوي تحت كلٍّ متكامل، ولا يمكن أن يتم الإدراك إلا بهذه الطريقة، ولذا نجد أن الماديين (في عصر ما بعد الحداثة) ينكرون تماماً فكرة الكل، ويعلن نيتشه موت الإله الذي يعني في الواقع نهاية الكل. وهجوم الماديين والطبيعيين على الكل أمر مُتوقَّع، ففكرة الكل تُذكِّرنا بمعجزة الإنسان الذي يتجاوز النظام الطبيعي وحركة الأنزيمات والذرات والأرقام، ومن ثم فإنها تخلق ثنائية فضفاضة تستدعي مرجعية متجاوزة للنظام الطبيعي هي الإله. فالكل يؤكد تجاوز الإنسان، وتجاوز الإنسان يؤكد وجود الإله كمقولة تفسيرية معقولة. ولذا، لابد أن تهاجم هذه الفلسفة فكرة الكل حتى يعود الإنسان إلى الطبيعة ويُستوعَب فيها. وهكذا بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقا، وانتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة نفسها.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:12 AM
3 ـ وهناك حس الإنسان الخُلقي والديني، والجمالي، وقلقه، وتساؤله عن الأسئلة النهائية الكبرى. وهي أحاسيس لا يمكن تفسيرها على أساس مادي، فالأمر أكثر صعوبة من مجرد تفسير وجود الأفكار. وكما ينتهي الفكر المادي بإنكار الفكر، وإنكار الكل، فهو ينكر أيضاً الحس الخُلقي والجمالي ويُسقط الأسئلة النهائية. وعلى هذا، فإن عبارات مثل «القتل شر» و«هذه اللوحة جميلة» و«قلق الإنسان على مصيره في الكون» هي عبارات لا معنى لها من منظور مادي، تماماً مثل عبارة «الله رحيم» أو «الله موجود»، فكلها عبارات لا يمكن إثباتها أو دحضها من خلال المنهج العلمي المادي.

4 ـ المادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى للكون ومركزاً له. والحقيقة أنه حينما لا يجد هذا المعنى، فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم وإنما يتفسخ ويصبح عدمياً ويتعاطى المخدرات وينتحر ويرتكب الجرائم دون سبب مادي واضح. وتزداد قضية المعنى حدة مع ازدياد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. والبحث عن المعنى عبَّر عن نفسه على هيئة فنون وعـقائد. وكما يقـول علي عـزت بيجوفيتش، فإن "الدين والفن مرتبطان بالإنسان منذ أن وُجد على وجه الأرض، أما العلم (المادي) فهو حديث، وفشل العلم المادي (الذي يدور في إطار نماذج مادية) في تفسير الإنسان وفي التحكم فيه هو دليل فشله في إدراك الظـاهرة الإنـسانية وإدراك أن الحلول التي يأتي بها حلول ناقصة".

5 ـ والفلسفات المادية تدور في إطار المرجعية المادية، ولذا فإنها ترسم صورة واحدية للإنسان إما باعتباره شخصية صراعية دموية قادرة على خرق كل الحدود وعلى إعلاء إرادتها وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو باعتباره شخصية قادرة على التكيف مع الواقع و الخضوع لقوانين الحركة. وهذه صورة ساذجة غير حقيقية:

أ) الصورة الأولى تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان مثل مقدرته على التضحية بنفسه من أجل وطنه أو من أجل أبيه أو أمه، ومقدرته على ضبط نفسه من أجل مُثُل عليا.

ب) الصورة الثانية تؤكد أن الإنسان غير قادر على الثورة والتجاوز. وبالفعل، يُلاحَظ في العصر الحديث هيمنة نظم سياسية تسيطر عليها رؤى تكنوقراطية محافظة. ومع هذا، لم تنجح المادية تماماً في قمع الإنسان وتسويته بالأمر الواقع. فالإنسان لا يزال قلقاً وغير راض، وهو إن لم يُعبِّر عن قلقه من خلال الثورة الناضجة فهو يُعبِّر عن هذا القلق بأشكال مرضية.

وفي محاولة لتفسير هذه الجوانب الإنسانية غير المادية من الوجود الإنساني، يذهب الماديون إلى أن كل هذا حدث بالصدفة من خلال عملية كيميائية بسيطة ثم وصلت الكائنات بعد ذلك إلى درجة من التركيب من خلال قانون التطور. وهو ما يعني أن قانون الصدفة وقانون التطور هما القانونان الأساسيان؛ فالصدفة هي سفر التكوين أو قصة الرؤية المادية بشأن الخلق، والتطور هو تاريخها غير المقدَّس، الزمني المكاني. والتطور نفسه خاضع للصدفة وصراع القوة، فكأن الصدفة أو القوة (أو كلتيهما) محرك للكون وضمنه الإنسان. هذا التفسير المادي للأمور هو تفسير ميتافيزيقي رغم إنكاره للميتافيزيقا؛ وهو يهدف إلى سـد الثغرة في النظام الطبيعي وإلى تصفية ظاهرة الإنسان وإلغاء الحيز الإنساني، ذلك لأن التفسيرات المادية غير قادرة على استيعاب أية ثنائية أو أي تركيب يتحدى النظام الواحدي المادي البسيط (فهي تفسيرات تُؤثر البساطة والواحدية على التركيب والتعددية(.

ولكن ليست هناك أية ضرورة لرفض مقولة الإنسان المركب الذي لا يُرَدُّ إلى المادة أو الاستغناء عنها، وخصوصاً أنها جزء من تجربتنا الوجودية وإدراكنا لذاتنا وواقعنا الإنساني. ولذا، وبدلاً من التأرجح بين العقلانية المادية التي تحاول تفسير كل شيء من خلال السببية الصلبة المطلقة من جهة واللاعقلانية المادية التي تعجز عن تفسـير أي شـيء من جهة أخرى، وبـدلاً من الإصرار عـلى إلغاء الثنائية نشعر (نحن البشر) بوجودها في عالمنا المادي، وذلك باسم البساطة والواحدية والتناسـق الهندسي القاتل، قد يكون من الأمانة أن نُسمِّي هذا الجانب في الوجود الإنسـاني «الجانب الرباني»، وعلينا من ثم أن نستدعي ثنائية أخرى ذات مقدرة تفسيرية عالية لا يمكن إلغاؤها. وبدلاً من مجرد استخدام مقولات مادية تفسيرية تفرض الواحدية على الواقع، وتُسوي الإنسان بالطبيعة والكيف بالكم وغير المادي بالمادي، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، كما يمكن استدعاء مدلول متجاوز للنظام الطبيعي ولقوانين المادة نصنف تحته كل الظواهر التي لا تخضع للقياس ونفسر من خلاله كل ما لا يدخل شبكة السببية الصلبـة المطلقـة وندرك من خلاله كل التجليـات التي تظهر في عالمنا الطبيـعي دون أن نتمكن من تفسير جميع جوانبها، أي مقولة غير مادية تكمِّل (ولا تَجبُّ) المقولات المادية، مقـولة تتجاوز العقـل المادي دون أن تحطمـه، وهـذه المقولة هي ما يُطلَق عليه «الإلـه»؛ مركز الكون الموجود خارج المادة، والذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد، يُعنَى بدنيانا وبمسار التاريخ ولكنه ليس كمثله شيء، ووجوده تعبير عن وجود كل من الطبيعة وما وراء الطبيعة، وما يُقاس وما لا يُقاس، ووجود الإنسان كإنسان يستند إلى وجوده.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:12 AM
النزعة الربانية
نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية نحو إزالة الحدود والحيز الإنساني والهوية الإنسانية والذات المتعينة ومحو الذاكرة التاريخية والذوبان في الطبيعة/المادة والهرب من المسئولية الأخلاقية والمقدرة على التجاوز من ناحية، ومن ناحية أخرى، النزعة الربانية نحو تجاوز الطبيعة/المادة وتقبُّل الحدود والمسئولية وعبء الوعي وتأكيد الهوية الإنسانية وتركيبيتها. والنزعة الربانية تعبير عن وجود عنصر غير مادي غير طبيعي داخل الإنسان، وهو عنصر لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة نسميه «القبس الإلهي»، وهو ذلك النور الذي يبثه الإله الواحد المتجاوز في صدور الناس (بل في الكون بأسره)، فيمنحه تركيبيته اللامتناهية،ويولِّد في الإنسـان العـقل الذي يدرك من خـلاله أنه ليـس بإله، وأنه ليـس بالكل، وأنه مكلف بحمل الأمانة، وأن عليه أعباء أخلاقية وإنسانية تشكل حدوداً وإطاراً له. ولكن هذه الحدود هي نفسـها مصدر تميزه، فهي تفصله عن كل من الإله والكائنات الطبيعية، وتميِّزه عن هذه الكائنات بعقله ووعيه والمسئولية المناطة به. فكأن الحدود هي حيزه الإنساني الذي يمكن للإنسان أن يحقق فيه إمكانياته أو يجهضها. وهو الحيز الذي يتحول فيه الإنسان إلى كائن اجتماعي قادر على أن يرجئ رغباته ويُعلي غرائزه ولا يطلق لشهواته العنان حتى يمكنه أن يعيش مع الآخرين ويتواصل معهم، وأن ينتج أشـكالاً حضارية إنسـانية تتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعـالم المثيرات والاستجابات العصبية والجسدية المباشرة.

والإنسان الإنسان، ثمرة النزعة الربانية، يقف على طرف النقيض من الإنسان الطبيعي/المادي ثمرة النزعة الجنينية، فهو ذو هوية محدَّدة يكتسبها من خلال الحدود المفروضة عليه ولكنه لا يتمركز حول ذاته، وفي إطار المرجعية المتجاوزة يمكنه تأكيد إنسانيته لا بالعودة إلى ذاته الضيقة (الطبيعية) والرغبة في التحكم في الكون، وإنما بالإشارة إلى النقطة المرجعية المتجاوزة. وهو أيضاً لا يفقد ذاته ولا يتمركز حول الموضوع (الطبيعة/المادة)، أي أنه لا يتأرجح بين الواحدية والثنائية الصلبة ولا بين الصلابة والسيولة. فوجود المركز المتجاوز ضمان لأن يحتفظ بهويته وذاته ولا يغوص في حمأة المادة ولا يذعن لقوانينها وحتمياتها.

والإنسان الإنسان، على عكس الإنسان في الحالة الجنينية، قادر على تفسير العالم والنصوص، فاللغة ليست أيقونات تُشير إلى ذاتها، وإنما مفردات وجُمل لها قواعدها، وهو للسبب نفسـه قادر على التواصل مع الآخرين، ومن ثم قادر على تجاوز ذاته والتحرك مع الآخرين داخل الحدود التاريخية والاجتماعية والحضارية، التي تشكل حيزنا الإنساني الذي نحقق فيه جوهرنا الإنساني. فهو إنسان فرد له قصته الصغيرة، ولكنها صدى للإنسانية المشتركة وللقصة الإنسانية الكبرى.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:13 AM
الثنائية الفضفاضة: نمط إنسانى (ربانى)عام
«النزعة الربانية» تعني خروج الإنسان من نطاق المرجعية الكامنة المادية ودخوله في نطاق المرجعية المتجاوزة مما يعني ظهور ثنائية أساسية لا يمكن محوها، هي ثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة. هذه الثنائية تعني زوال أية واحدية ذاتية كانت أم موضوعية. لأن في إطار المرجعية المتجاوزة لا يمكن للإنسان أن يسقط في الجنينية التي تحطم الحدود بين الكل والجزء، ولا يمكن أن يتمركز حول ذاته. كما لا يمكن للموضوع (المادي) أن يتمركز حول نفسه، إذ يظل مركز الكون خارجه. وثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة ينتج عنها ثنائية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة، فالإله يزود الإنسان بالعقل الذي يميِّزه عن سائر الكائنات، وهذا ما يجعله إنساناً إنسان (أو إنساناً ربانياً)، أي إنساناً غير طبيعي/ مادي، له جوهره الإنساني المتميز عن الطبيعة/المادة، يعيـش في الحـيز الطبيعي/المادي نفسـه ولكنه قادر على تجاوزه وتجاوز ذاته الطبيعية. وهذا الكائن الذي يحوي داخله الأسرار، يستعصي على التفسيرات الطبيعية/المادية ولا يمكن اختزاله أو رده إلى مبدأ واحد ولا يمكن التحكم فيه تحكماً كاملاً، إنه إنسان يبحث عن المعنى في الكون ولا يستسلم للعبث أو العدمية أو الواحدية المادية، إنسان حر قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية، ومن ثم يشكِّل ثغرة في النظام الطبيعي وتحدياً للمنظومات المعرفية والأخلاقية الواحدية المادية.

كل هذا يعني انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها. ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليس بمركز الكون، وهو ليس سيد الطبيعة، فمالكها هو الله. ولذا فهو مستخلف فيها يتفاعل معها.

إن الثنائية الفضفاضة (ثنائية الخالق والمخلوق والإنسان/الطبيعة) ليست اثنينية أو ثنائية صلبة لأن الإنسان، من خلال النزعة الربانية داخله، ينفصل عن الإله وعن الطبيعة ولكنه يتفاعل ويتجاوب معهما، ومن خلال تفاعله يكتسب المقدرة على التجاوز وتزداد حريته. والوجود الإنساني الأمثل ليس محو النزعة الجنينية والتعبير الخالص عن النزعة الربانية، ولا هو محو النزعة الربانية والتعبير الخالص عن النزعة الجنينية، وإنما التكامل والتقابل بينهما. وهذه الثنائية الوجودية الأنطولوجية الأساسية الفضفاضة تتجلى في المنظومات المعرفية (مجهول/معروف ـ غيب/علم ـ مطلق/نسبي ـ روح/جسد) والمنظومات الأخلاقية (خير/شر) والدلالية (دال/مدلول) والجمالية (جميل/قبيح)، وعلى كل المستويات (ذكر/أنثى ـ أعلى/أسفل ـ سماء/أرض). وهناك ثنائية غير متعادلة تُفترَض فيها أسبقية العنصر الأول على العنصر الثاني (جميل/قبيح) ولكن هناك أيضاً ثنائيات لا تُفترَض فيها أسبقية عنصر على الآخر (ذكر/أنثى) وإن كانت تفترض الاختلاف.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:13 AM
الباب الرابع : الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية


في كل المداخل السابقة حاولنا أن نبيِّن أن ثمة ثنائية فضفاضة تسم الوجود الإنساني (الخالق/المخلوق ـ النزعة الربانية/النزعة الجنينية ـ الإنسان/الطبيعة). وثنائية الإنسان/الطبيعة هي أهم هذه الثنائيات. وقد عبَّرت عن نفسها في الجدل المثار في العلوم الإنسانية منذ بداية ظهورها في القرن التاسع عشر وهل هناك «علم طبيعي» مختلف عن «العلوم الإنسانية» أم أن هناك وحدة (أي واحدية) للعلوم.

ويُطلَق مصطلح »العلم الطبيعي» على كل دراسة تتناول معطيات الواقع المادي بكلياته وجزئياته. ووسيلة هذه الدراسة هي منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المتكررة والمتنوعة. والدراسة وكذلك عمليات التجريب تتم بهدف التفسير من خلال التوصل إلى تعميمات وقوانين تحقق الانتقال من الخاص إلى العام وتكشف عن العلاقات المطّردة الثابتة بين الظواهر. وهذه القوانين يتم التعبير عنها عن طريق تحويل صفات الكيف (التي لا تُقاس) إلى صفات كم بحيث يتم التعبير عنها برموز رياضية. وتتميَّز قوانين العلوم الطبيعية بأنها دقيقة وعامة تتخطى الزمان والمكان، وهي حتميـة (ولكنها، بعد اهتزاز الحتمية، أصبحت احتمالية ترجيحية: ترجيحية تقارب اليقين وتظل صالحة للاستعمال حتى يثبت بطلانها(.

ويذهب البعض إلى أن نموذج العلوم الطبيعية (بما ينطوي عليه من واحدية موضوعية مادية) لابد أن يُطبَّق في كل العلوم الأخرى (وضمن ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية). وقد لاحظ كثير من العلماء في الشرق والغرب خلل مثل هذه المحاولة نذكر منهم د. حامد عمار، د. توفيق الطويل، د. حسن الساعاتي (الذين يعتمد هذا المدخل على كتاباتهم) وبينوا الاخـتلافات بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، ونوجزها فيما يلي:

1ـ أ) الظاهرة الطبيعية مُكوَّنة من عدد محدود نسبياً من العناصر المادية التي تتميَّز ببعض الخصائص البسيطة، وهذا يعني أنه يمكن تفتيتها إلى الأجزاء المكوِّنة لها. كما أن الظاهرة الطبيعية توجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة نوعاً والتي يمكن رصدها.

ب) الظاهرة الإنسانية مُكوَّنة من عدد غير محدود تقريباً من العناصر التي تتميَّز بقدر عال من التركيب ويستحيل تفتيتها لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. وحينما يُفصَل الجزء عن الكل، فإن الكل يتغيَّر تماماً ويفقد الجزء معناه. والظاهرة الإنسانية توجد داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر ولا يمكن ملاحظته.

2ـ أ) تنشأ الظواهر الطبيعية عن علة أو علل يسهل تحديدها وحصرها، ويسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها وتحديد هذا الأثر تحديداً رياضياً.

ب) الظاهرة الإنسانية يصعب تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تُعرَف بعض الأسباب لا كلها، ولكن الأسباب تكون في العادة متداخلة متشابكة، ولذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.

3ـ أ) الظـاهرة الطبيعـية وحـدة متكـررة تَطَّرد على غرار واحد وبغير اسـتثناء: إن وُجدت الأسـباب ظهرت النتيجة. ومن ثم، نجد أن التجربة تُجرَى في حالة الظاهرة الطبيعية على عينة منها ثم يُعمَم الحكم على أفرادها في الحاضر والماضي والمستقبل.

ب) الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تَطَّرد بنفس درجة الظاهرة الطبيعية لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول إلىها، تظل تعميمات قاصرة ومحدودة ومنفتحة تتطلب التعديل أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:13 AM
4ـ أ) الظاهرة الطبيعية ليس لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية تُسقطها على الواقع وتدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية (برانية) تحركها.

ب) الظاهرة الإنسانية على خلاف هذا، ذلك لأن الإنسان يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الإنسان له وعي يسقطه على ما حوله وعلى ذاته فيؤثر هذا في سلوكه. والإنسان له ذاكرة تجعله يُسقط تجارب الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يُغيِّر وعيه بواقعه. وضمير الإنسان يجعله يتصرف أحياناً بشكل غير منطقي (من منظور البقاء والمنفعة المادية)، كما أن الأنساق الرمزية للإنسان تجعله يُلوِّن الواقع البراني بألوان جوانية.

5ـ أ) الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها ويدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل يُوحِّد بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلاًّ مصمتاً تحكمه من الداخل والخارج قوانين بالغة الدقة لا يمكنها الفكاك منها، ولهذا تنجح الملاحظة الحسية والملاحظة العقلية في استيعابها كلها.

ب) الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز) ولذا فإن ما يَصدُق على الظاهر لا يَصدُق على الباطن. وحتى الآن، لم يتمكن العلم من أن يُلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة وأحلامه الممكنة أو المستحيلة.

6ـ أ) لا يوجد مكوِّن شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية؛ فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان والمكان تَجرُّدها من الوعي والذاكرة والإرادة.

ب) المكوِّن الشخصي والثقافي والذاتي مكوِّن أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. والثقافة ليست شيئاً واحداً وإنما هي ثقافات مختلفة، وكذا الشخصيات الإنسانية.

7ـ أ) معدل تحوُّل الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدماً (من وجهة نظر إنسانية)، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، ولذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، ويمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر.

ب) معدل التغيُّر في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير ويتم على مقياس تاريخي، وما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماطاً مسبقة ولكنه قد ينسلخ عنها. وعالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، ولذا فهو يدرسها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تُفقَد إلى الأبد فور وقوعها.