المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 [4] 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 04:59 AM
موسوعة تأسيسية
وفي عام 1975، قررت تحديث موسوعة المصطلحات اليهودية والصهيونية: رؤية نقدية (القاهرة 1975) وتعميق الجانب التفكيكي النقدي، بعد أن أصبحتُ أكثر وعياً به. ولذا قررت أن أكتب ما سميته حينذاك «موسوعة مضادة» (بالإنجليزية: آنتي أنسيكلوبيديا anti-encyclopedia)، فدعوت حشداً كبيراً من الباحثين الشبان والمتخصصين وطلبت من كل واحد منهم أن يكتب مدخلاً في حقل تخصصه، على أمل أن أنتهي من تحديث الموسوعة في غضون عام أو عامين. واستغرقت العملية التفكيكية ما يقرب من عشر سنوات أي حتى عام 1985 حين اكتشفت أنني انتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى دون أن أشعر، إذ وجدت أنني في واقع الأمر، شأني شأن الباحثين الذين تعاونوا معي، أقوم بعملية تمديد أفقي للمعلومات في الإطار التفكيكي العام. ولا شك في أن التفكيك له فائدة، بل هو أمر حتمي وضروري، فهو يكشف المفاهيم الكامنة ويزيل الغشاوات، ولكنه يترك كثيراً من جوانب الظاهرة دون تفسير. فالتفكيك عملية هدم جذرية تطهيرية ولكنه ليس عملية تفسيرية. والتفسير غير التفكيك، فهو عملية إبداعية تركيبية تتطلب نحت نماذج مختلفة والربط بينها والغوص في كل الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية للظاهرة، وإعادة ترتيب الوقائع وتصنيفها في ضوء النماذج الجديدة، واكتشاف حقائق جديدة مُهمَّشة ومنحها المركزية التفسيرية التي تستحقها، وتوليد مصطلحات جديدة وإعادة تعريف بعض المصطلحات القائمة.

وقد حدث شيء مهم جداً في حياتي الفكرية عام 1985 وهو أن همومي الفكرية الأساسية (الصهيونية كاستعمار استيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية ـ الهيجلية والحلولية ونهاية التاريخ ـ الاستهلاكية ومصير الإنسان ـ التحيزات المعرفية والحاجة لمشروع حضاري مستقل ـ الحاجة إلى استخدام النماذج كأدوات تحليلية)، التي كانت مترابطة بشكل ما، تلاحمت تماماً وأدركت العلاقات فيما بينها، الأمر الذي كان يعني ضرورة البدء من جديد. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، اكتشافي معلومات مهمة، أي إدراكي أهميتها التفسيرية (فهي معلومات معروفة ولكنها مُهمَّشة تماماً)، فقد وجدت أن الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في نهاية القرن الثامن عشر كانوا يوجدون في بولندا، وأننا حينما نتحدث عن يهود العالم الغربي (أي معظم يهود العالم) فإنما نتحدث في واقع الأمر عن يهود بولندا الذين اقتسمتهم روسيا والنمسا وألمانيا باقتسام بولندا نفسها، ومن صفوفهم خرجت الألوف والملايين التي هاجرت إلى إنجلترا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ثم فلسطين. ولذا، لابد للمتخصص في اليهود واليهودية والصهيونية أن يُلم إلماماً كبيراً بتاريخ بولندا وتشكيلها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفريد. وهنا اكتشفت جهلي التام. هل سمع أحد منا بجمهورية يحكمها ملك منتخب؟ وما علاقة بولندا بلتوانيا وما علاقتهما بأوكرانيا؟ هل سمع أحد منا بطبقة الشلاختا (طبقة النبلاء البولنديين) أو بنظام الأرندا (نظام استئجار الأراضي من النبلاء)؟ وما دور اليهود في الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا؟ إن هذه العناصر والمفردات هي التي تكوِّن تاريخ بولندا ومن ثم تاريخ الجماعة اليهودية فيها، ولا يمكن فهم المسألة اليهودية إلا بعد الإحاطة بهذه العناصر وغيرها إحاطة كاملة.

ساجدة لله
2010-10-23, 04:59 AM
هذا بالنسبة لليهود. أما بالنسبة لليهودية، فقد اكتشفت الدور المتزايد الذي لعبته القبَّالاه اللوريانية (أي الصوفية اليهودية على طريقة إسحق لوريا) في تقويض دعائم التلمود حتى حلّت كتب القبَّالاه محله. وبناءً على هذا، فقد أحضرت عدداً كبيراً من الدراسات في تاريخ بولندا والقبَّالاه وفي غير ذلك لأملأ الفراغات في تكويني الثقافي.

عند هذه اللحظة، أدركت أنني تركت مرحلة التفكيك بصورة تلقائية وانتقلت إلى مرحلة التركيب، وأنني لم أعد أفكك وحسب وإنما بدأت أطرح أسئلة وإشكاليات ومصطلحات ونماذج ومقولات تحليلية جديدة كان من شأنها تركيب تصوُّر جديد لتاريخ اليهودية ولأعضاء الجماعات اليهودية. وعلى هذا، فإن الموسوعة لم تعد موسوعة معلوماتية تحاول توفـير المعـلومات للقارئ، ولا حتى موسوعة تفكيكية تحاول أن تهدم النماذج القائمة، وإنما هي موسوعة تأسيسية. ولو كانت هذه الموسوعة موسوعة معلوماتية، لأصبح هذا العمل ضعف حجمه الحالي ولتم إنجازه في بضع سنوات، ولو كانت موسوعة تفكيكية وحسـب لنُشرت عام 1983 مع انتهاء السادة الباحثين الذين قدَّموا إسهاماتهم في موعدها، ولكنها موسوعة تأسيسية كما أسلفت.

دراسـة حـالة
«دراسة حالة» هي ترجمة لعبارة «كيس ستدي case study» الإنجليزية التي تعني دراسة الظواهر الإنسانية من خلال التحليل المتعمق لحالة فردية (قد يكون شخصاً أوجماعة أو حقبة تاريخية). ويفترض هذا المنهج أن الباحث يرى أن الحالة الفردية موضع الدراسة هي حالة ممثلة لحالات أخرى كثيرة (حالة نماذجية في مصطلحنا)، أي أنها جميعاً تنتمي لنفس النموذج. وهدف الدراسة هو الوصول لهذا النموذج متمثلاً بشكل متبلور في الحـالة عن طريق التحـليل المتعمق. وبعد الوصول إلى هذا النموذج يمكن تطبيقه على حالات أخرى تندرج تحته.

وهذه الموسوعة قامت بتطوير نماذج ثلاثة أساسية: الحلولية الكمونية الواحدية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية، ثم حاولت تحديد معالم هذه النماذج، ثم قامت باختبارها عن طريق تطبيقها على حالة محددة هي الجماعات اليهودية في العالم منذ ظهورها على مسرح التاريخ حتى الوقت الحاضر.

ثلاثة نماذج أساسية: الحلولية - العلمانية الشاملة - الجماعة الوظيفية
يمكن القول بأن الأداة التحليلية الأساسية في هذه الموسوعة هي النموذج المعرفي التحليلي المركب الذي يبتعد عن الاختزالية والتفسيرات أحادية البُعد. فقد قمنا بصياغة نموذج مركب فضفاض يحاول أن يتناول الظواهر اليهودية والصهيونية في أبعادها السياسية والاقتصادية والحضارية والمعرفية، بل يشير إلى بعض العناصر التي قد يعجز هو ذاته عن تفسيرها. والنموذج التحليلي المركب الذي طورناه يتسم (في تصورنا) بأنه لا يتأرجح بحدة بين العمومية الشاملة والخصوصية المتطرفة (المتأيقنة) فهو نموذج على مستوى معقول من العمومية والخصوصية يرمي إلى وضع اليهود واليهودية والصهيونية، باعتبارهم حالة محددة، في سياق إنساني عالمي مقارن يضم كل البشر ويدرك إنسانيتنا المشتركة، حتى ندرك أن الحالة المحددة ليست شيئاً مطلقاً وإنما تنتمي إلى نمط إنساني عام ومجرد، ومع هذا يحاول النموذج التحليلي في الوقت نفسه ألا يهمل الملامح الفريدة والمنحنى الخاص للظواهر اليهودية والصهيونية. ولذا لم نقذف باليهود واليهودية والصهيونية في صحراء العمومية المُسطَّحة التي وضعهم فيها أصحاب النماذج التحليلية الموضوعية الملساء (ومن بينهم صهاينة يريدون تطبيع اليهود) الذين يرون اليهود باعتبارهم وحدات مادية، اقتصادية أو سياسية عامة، ليست لها ملامح متميِّزة ولا تتمتع بأية خصوصية. كما أننا لم نتركهم في جيتو الخصوصية اليهودية، المفاهيمي والمصطلحي، جيتو التفرُّد المطلق، والقداسة والدناسة، والطهارة والنجاسة، والاختيار والنبذ. ذلك الجيتو الذي وضعهم فيه أصحاب النماذج التحليلية من الصهاينة وأعداء اليهود الذين يرون اليهود باعتبارهم ظاهرة مستقلة، مكتفية بذاتها، تحوي داخلها كل أو معظم ما يكفي لتفسيرها. وانطلاقاً من هذا التصور تم تأسيس مخصصاً "علمياً" يُسمَّى «الدراسات اليهودية».

بدلاً من كل هذا، حاولنا أن ندخل الظواهر اليهودية والصهيونية المجال الرحب للعلوم الإنسانية وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا والتاريخ الإنساني، حيث يمكن من خلال نماذج مركبة رؤية علاقة الكل (العام) بالجزء (الخاص) دون أن يفقد أيٌّ منهما استقلاله وحدوده.

ولإنجاز كل هذا، قمنا بتفكيك مقولات مثل «اليهودي العالمي» و«اليهودي المطلق» و«اليهودي الخالص» و«المؤامرة اليهودية» و«التاريخ اليهودي» (... إلخ) لنبيِّن المفاهيم الكامنة فيها، فهي تفترض أن اليهود لا يتغيرون بتغير الزمان أو المكان، وحتى إن تغيَّروا فإن مثل هذا التغيُّر يحدث داخل إطار يهودي مقصور على اليهود داخل حركيات وآليات التاريخ اليهودي. وبيَّنا عجز مثل هذه المقولات عن تفسير الواقع بأن أشرنا إلى عدد كبير من العناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية التي لم تتعرض لها هذه المقولات لأنها تقع خارج نطاق مقدرتها التفسيرية. وبيَّنا أن هذه المقولات تتسم بالعمومية المفرطة (اليهود في كل زمان ومكان) والخصوصية المفرطة (اليهود وحدهم دون غيرهم). وأوضحنا كذلك أن من المستحيل أن نفهم سلوك اليهود، وآلامهم وأشواقهم وخيرهم وشرهم، من الداخل، أي بالعودة إلى كتبهم المقدَّسة (التوراة والتلمود) أو شبه المقدَّسة (القبَّالاه) أو غير المقدَّسة (البروتوكولات كما يزعم المعادون لليهودية) أو بالعودة إلى تصريحات الصهاينة وغيرهم.

ساجدة لله
2010-10-23, 04:59 AM
ولذا، فإننا في سياق محاولة نحت نموذج تحليلي جديد مركب، لم نذهب إلى التوراة والتلمود والبروتوكولات وحارات الجيتو ولا إلى بقعـة جغــرافية معيَّنة أو لحظــة تاريخيــة بعينــها. وحــاولنا ألا نســتنيم لأية أطروحــات أو مســلمات عامــة (الصــراع العــربي الإسـرائيلي إن هو إلا صراع طبقي أو اقتصادي ـ العنصر الاقتصادي هو الذي يحرك كلاً من العرب واليهود ـ اليهود إن هم إلا بورجوازيون صغار ـ إسرائيل إن هي إلا قاعدة للاستعمار الغربي)، فدرسنا كل جماعة يهودية في سياقها السياسي والاقتصادي والتاريخي والحضاري والديني والإنساني المتعيِّن حتى نفهم العناصر التي تنفرد بها عن غيرها والعناصر التي توجد في كل الجماعات.

وقد وجدنا أن من الأجدى من الناحية التفسيرية، ألا نشير إلى اليهود في كل زمان ومكان باعتبارهم «اليهود» وحسب، وبشكل مجرد وكلي ومغلق، بل رأينا أن نشير إليهم باعتبارهم «أعضاء الجماعات اليهودية» في هذا المكان أو ذاك الزمان، وذلك حتى ينفتح الجيتو وحتى نستخدم مصطلحاً قادراً على التعامل مع كل الجوانب المتعددة والثرية للظواهر اليهودية. ونفس الشيء بالنسبة لمسألة «التاريخ اليهودي» الذي يصبح «تواريخ الجماعات اليهودية» و«الهوية اليهودية» التي تصبح «الهويات اليهودية» و«الجريمة اليهودية» التي تصبح «الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية». فهذه الجماعات اليهودية يمكن أن نجدها في الصـين في القرن الرابع عشر أو في بولندا في القرن التاسـع عشـر أو في جنوب أفريقيا في القرن العشرين. وبينما تميل الدراسات الصهيونية (والمعادية لليهود) والمتأثرة بها إلى أن تؤكد عناصر التشابه بين هؤلاء، وجدنا أن من الأجدى أن نرصد كلاًّ من عناصر التشابه والتجانس والاختلاف وعدم التجانس ثم نرتب العناصر حسـب مقدرتها التفسيرية. ولقد وجدنا أن عنـاصر التشـابه والتجانـس، رغم أهميتها أحياناً، أقل أهمية من عناصر الاختلاف وعدم التجانس (ومن هنا صيغة الجمع).

ثم طورنا عدة نماذج لكل مستواه التعميمي وسياقاته ومستويات فعاليته، ولكنها مع هذا ينتظمها نموذج تحليلي مركب أكبر تلتقي من خلاله كل أو معظم النقط الأساسية:

ساجدة لله
2010-10-23, 05:00 AM
1 ـ أول هذه النماذج هو نموذج الجماعات الوظيفية الذي طورناه لدراسة وضع الجماعات اليهودية في العالم الغربي ووضع الأقليات المماثلة في الحضارات الأخرى (الصينيون في جنوب شرق آسيا والهنود في أفريقيا... إلخ). أي أن دراسة الحالة هنا أخذت شكل دراسة أعضاء الجماعات اليهودية في إطار عِلم اجتماع الأقليات والجماعات التجارية الهامشية والجماعات الإثنية. وما يحدث لليهودي يحدث لكل أعضاء الأقليات (والجماعات الوظيفية) الأخرى، أي أن اليهودي يظهر باعتباره الإنسان عضو الأقلية الدينية أو الإثنية أو الوظيفية.

2 ـ اكتشفنا الحقيقة البديهية (والتي غابت عن الكثيرين): أن الظاهرة اليهودية ابتداءً من عصر النهضة في الغرب تحوَّلت تدريجياً إلى ظاهرة غربية بالدرجة الأولى، أي أن السياق الأساسي للجماعات اليهودية في العالم أصبح هو الحضارة الغربية الحديثة. وفي داخل هذا الإطار، اكتشفنا أن تجربة يهود بولندا هي أهم التجارب التاريخية للجماعات اليهودية سواء من ناحية الكم (الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي، مع نهاية القرن التاسع عشر، إما من بولندا أو من أصل بولندي) أو من ناحية الكيف والتطورات التاريخية اللاحقة. فالصهيونية هي حركة نشأت أساساً في صفوف يهود اليديشية، والتجربة الاستيطانية الصهيونية اللاحقة أكدت أهمية تجربة يهود الأرندا في أوكرانيا كممثلين لطبقة الشلاختا (النبلاء البولنديين) في إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا وثورة شميلنكي ضد هذا الإقطاع.

لكن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة، سواء في شرق أوربا أم خارجها، هو تاريخ التحديث والتغريب والعلمنة الجزئية والشاملة والمشاكل المرتبطة بظهور الدولة العلمانية القومية المركزية. وهذا التاريخ ليس تاريخ العلمنة وحسب وإنما هو أيضاً تاريخ الإمبريالية، فتاريخ التشكيل الحضاري الغربي الحديث هو أيضاً تاريخ التشكيل الإمبريالي الغربي الحديث. وقد ارتبطت الجماعات اليهودية في الغرب، منذ البداية، بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، وتحدَّد مسار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية بحركة الاستيطان الغربي. كما أن رؤية الإنسان الغربي للعالم ولذاته وللجماعات اليهودية أصبحت رؤية علمانية إمبريالية. ومن هنا، كان لابد من توسيع نطاق النموذج ليشمل هذه الرؤية. وكان هذا يعني ضرورة تطوير نموذج آخر هو نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، وهو نموذج أكثر اتساعاً من نموذج الجماعات الوظيفية وأكثر عمومية إذ لا يضع اليهود في سياق الأقليات وحسب وإنما في سياق التشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي، وهو التشكيل الذي هيمـن على العـالم بأسره وضمنه أعضـاء الجماعات اليهودية. وقد طبقنا هذا النموذج على اليهود باعتبارهم حالة محددة: أقلية إثنية دينية تعيش في عصر العلمانية الشاملة. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان الغربي الحديث، وما يحدث له (من اندماج ودمج وتدجين وتوظيف وتنميط وعلمنة وإبادة) هو ما يحدث للملايين من البشر في العصر

ساجدة لله
2010-10-23, 05:00 AM
الحديث. وهو إنسان يعيش في عصر أزمة الحداثة (ما بعد الحداثة).

3 ـ استخدمنا في دراستنا لتطور اليهودية نموذج الحلولية الكمـونية الواحدية مقابل نموذج التوحيد والتجاوز (الذي يفـترض وجـود ثنائية فضفاضة)، وبيَّنا أن الصراع بين النموذجين يشكل التوتر الأساسي في اليهودية (وفي كل الأديان). فهو تعبير عن تناقض إنساني أساسي يسم إنسانيتنا المشتركة، يأخذ شكل النزعة الجنينية (وهي الرغبة في فقدان الهوية والالتحام بالكل والتخلي عن الوعي وعن المسئولية الخلقية) في مقابل النزعة الإنسانية والربانية (وهي أن يؤكد الإنسان هويته الإنسانية المستقلة عن الطبيعة ويتحمل المسئولية الخلقية عن هذا الوضع).

ومن خلال نموذج الحلولية الكمونية هذا أرّخنا للعقيدة اليهودية ولتصاعد معدلات الحلولية الكمونية فيها إلى أن سيطرت القبَّالاه عليها تماماً. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان ممثل الإنسانية المشتركة في واقعها المأساوي والملهاوي، وفي مقدرتها الهائلة على تجاوز عالم المادة وعلى الغوص فيه، وعلى الصعود إلى أعلى درجات النبل، وعلى الهبوط إلى أدنى درجات الخساسة.


النماذج الثلاثة الأساسية: استقلالها الواضح ووحدتها الكامنة
كل نموذج من النماذج الثلاثة الفرعية (الحلولية الكمونية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعة الوظيفية) له استقلاله عن النموذجين الأخرين، وكل سياق له آلياته وحركياته وسماته، ويتفاوت البُعد الزماني في النماذج الثلاثة، فهو أكثر وضوحاً في نموذج الجماعة الوظيفية، ويكاد يتلاشى في نموذج الحلولية، ولكن النماذج كلها مع هذا تتلاقى وتتقاطع. فسنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية من حملة الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية/المادية). ولكن ثمة تقابلاً اختيارياً بين الحلولية والعلمانية الشاملة، كما أن عضو الجماعة الوظيفية إنسان وظيفي متحوسل ذو بُعد واحد، لذا سنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية هم عادةً من حملة الفكر العلماني الشامل (الحلولي الكموني الواحدي المادي) الذي يُترجم نفسه عادةً إلى رؤية إمبريالية.

والنقطة المشتركة بين كل هذه النماذج أنها واحدية تنكر التجاوز وتُلغي الثنائيات الفضفاضة والحيز الإنساني، فالحلولية الكمونية هي رؤية للواقع ترى أن الإله قد حل في العالم حتى أصبح الإله غير متجاوز للعالم متوحداً معه، ومن ثم أصبح الإله والطبيعة والإنسان شيئاً واحداً، أي أن ثنائيات: الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والكل والجزء، والعام والخاص تم إلغاؤها لتظهر الواحدية الكونية المادية. والعلمانية (الشاملة) ترى أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأنه لا حاجة لتجاوز هذا العالم الذي تسوده قوانين واحدة تسري على الطبيعة والإنسان، وهو ما يقضي على ثنائية الإنسان والطبيعة لتظهر الواحدية المادية (والإمبريالية بطبيعة الحال تنظر للعالم باعتباره مادة محضة يمكن للأقوى حوسلتها لصالحه، أي أنها هي الأخرى تدور في إطار شكل من أشكال الواحدية المادية التي نطلق عليها «الواحدية الذاتية الإمبريالية»). ويُعرَّف أعضاء الجماعات الوظيفية في ضوء وظيفتهم وحسب لا في ضوء إنسانيتهم المتعينة، ومن ثم فإن أبعادهم الإنسانية الأخرى يتم إنكارها لتظهر الواحدية الوظيفية. فثمة محور مشترك وسمة أساسية، وهي الواحدية الكاملة، والتي تتبدَّى على مستويات مختلفة. فالحلولية الكمونية تتبدَّى بالدرجة الأولى على المستوى الديني والمعرفي (الكلي والنهائي)، بينما تتبدَّى الجماعات الوظيفية أساساً على المستوى الاقتصادي والوظيفي، أما العلمانية والإمبريالية الشاملة فإنها تتبدَّى بشكل مكثف على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:00 AM
ولقد قلنا "بالدرجة الأولى" و"أساساً" و"بشكل مكثف" عن عمد، لأن كل نموذج يتبدَّى في واقع الأمر على كل المـستويات، وكل ما في الأمر أنه قد يتبدَّى بشـكل أكثر كثافة على مـستوى معيَّن دون المـستويات الأخرى. ولهذا، فقد احتفظنا بتعدد المستويات واستقلالها ومقدرتها التفسيرية ولكن مع تأكيد وحدتها على مستوى أعمق وهو المستوى المعرفي (الكلي والنهائي).

وكل النماذج الفرعية ـ كما أسلفنا ـ تنضوي تحت نموذج أكبر ووحدة أساسية كامنة فيها، إلا أننا أكدنا أن هذا النموذج الأكبر لا يتبدَّى بنفس الطريقة في كل زمان ومكان وفي جميع الحالات، فالنموذج مثل الإمكانية التي قد تتحقق، وقد لا تتحقق، وإن تحققت فإن ما يتحقق هو أجزاء وجوانب منها وحسب، ومن هنا فإن النموذج العام لا يُغني عن دراسة كل حالة على حدة. ولذا فإننا رغم حديثنا عن نموذج الجماعات الوظيفية اليهودية داخل الحضارة الغربية، أكدنا أن هذا النموذج لا يتطور بنفس الطريقة ولا يَطَّرد بنفس الأسلوب وعلى نفس المستوى من مرحلة زمانية لأخرى. ونحن ننبه دائماً إلى أن النموذج الذي طرحناه نموذج عام جداً، يصلح إطاراً تصورياً ذا قيمة تحليلية وتفسيرية كلية وحسب، ويظل التطور التاريخي نفسه مختلفاً ومليئاً بالتعرجات والنتوءات والمنحنيات الخاصة التي يتطلب رصدها وفهمها وتفسيرها جهداً إبداعياً خاصاً وإدراكاً للطبيعة الاحتمالية للنموذج التحليلي التفسيري.

ويمكن أن نُعرِّف دراسـتنا بأنها دراسـة لحالة محدَّدة هي اليهود واليهودية في الحضارة الغربية أساساً والصهيونية وإسرائيل، وهي دراسة تاريخية اجتماعية مقارنة تركز على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين أعضاء الجماعات اليهودية (بما في ذلك المستوطن الصهيوني) من جهة، وأعضاء المجتمعات المختلفة من جهة أخرى، كما تركز على الأبعاد المعرفية لهذه العلاقات. لكن هذه الدراسة، رغم أنها دراسة حالة، إلا أنها دراسة لنماذج تحليلية مركبة ذات مقدرة تطبيقية تتجاوز الحالة موضع الدراسة، فهذه النماذج تتوجه لقضايا عامة مثل: علاقة الأقلية (خاصةً أعضاء الجماعات الوظيفية) بالأغلبية، وعلاقة الأقليات بالدولة القومية المركزية، وطبيعة الحضارة الغربية الحديثة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الحلولية بالتوحيد، وعلاقة الفكر بالمادة، وعلاقة الذات بالموضوع والصراع بين الواجدية (المادية) والثنائية الفضفاضة (استبعدنا أربعة مجلدات كانت تشكل الإطار النظري، وقمنا بتلخيصها في هذا المجلد، وسوف تَصدُر هذه المجلدات كموسوعة مستقلة بعنوان موسوعة العلمانية الشاملة بعد صدور هذه الموسوعة).

والجماعات اليهودية تشكل جماعات وظيفية مثل كل الجماعات الوظيفية الأخرى، لكن وجودها داخل الحضارة الغربية أعطاها تفرُّداً معيَّناً. وهي تتفاعل مع المجتمعات العلمانية ومع التشكيل الإمبريالي تفاعل الجماعات البشرية الأخرى، ولكنها نظراً لوضعها الخاص فإن تفاعلها مع العلمانية يأخذ شكلاً أكثر حدة. وهي جماعات تتنازعها النزعات الجنينية والربانية شـأنها شأن كل البشـر في كل زمان ومكان، لكن اليهودي هو الإنسـان في حالة ضيق متبلورة. وبسبب حالة الضيق هذه، تظهر كثير من أبعاد الظاهرة الإنسانية بشكل نماذجي متبلور من خلاله. وخصوصية الجماعات اليهودية، أو خصوصياتها التي تتنوع في كل زمان ومكان، هي خصوصيات لا تختلف عن خصوصيات الجماعات الأخرى، وإن كان هناك شيء فريد بالفعل فربما يكون متمثلاً في نوعية العناصر الإنسانية العامة التي تدخل في تشكيل الموضوع اليهودي وطريقة ترابطها. وهي عناصر تدخل في تشكيل كثير من الظواهر الإنسانية الأخرى وتترابط بطرق فريدة مختلفة!

ساجدة لله
2010-10-23, 05:00 AM
هيكل الموسوعة
«هيكل الشيء» هو دعامته الأساسية الملموسة، فهيكل المنزل هو دعامته الخرسانية والهيكل العظمي هو دعامة الجسد. وتُطلق كلمة «هيكل» على الشكل الخارجي الذي يمكن معاينته. ويمكن القول بأن مصطلح «هيكل» يتداخل مع مصطلح «بنية»، فكلاهما يعبِّر عن طريقة أو منطق ترتيب الأشياء. ولكن بينما يتسم الهيكل بالوضوح فإن البنية تتسم بالكمون. وهيكل هذه الموسوعة هو تعبير عن نموذجها التفسيري. وقد قلنا عن هذه الموسوعة إنها «موسوعة تأسيسية» بمعنى أنها ليست موسوعة معلوماتية ولا موسوعة نقدية تفكيكية، فهي تطمح إلى أن تطرح نموذجاً تفسيرياً وتصنيفياً جديداً. ولهذا السبب، نجد أن الجزء النظري طويل نسبياً فلم يكن هنـاك مفر من إعادة تعريف كل المصطلحات. ولنفـس السـبب نجد أن تبويب الموسـوعة تم على أسـاس موضوعات. فقد رتبناها ترتيباً مختلفاً عن ترتيب الموسوعات العادية، لأن الترتيب الألفبائي يعني أن القارئ عارف بالمصطلحات والشخصيات، أو أنه يقابل مصطلحاً جديداً أو شخصية جديدة ويريد المزيد من المعلومات عنها. أما الترتيب حسب موضوعات، فإنه يعني أن القارئ لابد أن يتدرج مع الموسوعة من الإشكاليات إلى محاولة الإجابة إلى العرض التاريخي وهكذا (على أننا زودنا الموسوعة بفهرس ألفبائي حتى يُيسِّر عملية الوصول إلى المداخل المختلفة، وحتى يستطيع القارئ أن يصل إلى أي مصطلح أو شخصية يقابلها).

ويعكس هيكل الموسوعة محاولة الوصول إلى قدر من التعميم دون إلغاء لخصوصية الأجزاء واستقلالها، فنحن نؤمن بأن القصص الصغرى (كما يقول دعاة ما بعد الحداثة) مهمة وممتعة ومباشرة ولها شرعيتها المحدودة، ولذا لابد أن تُروَى هذه القصص. لكن هناك داخل كل قصة صغرى إشارات للقصة العظمى التي تربط القصص الصغرى وتعطيها مغزاها، وبدون هذه الإشارات، تصبح القصص الصغرى لا معنى لها؛ محض تسلية ولغو حديث.

ويتضح الالتزام بكل من التعميم والتخصيص من خلال تقسيم الموسوعة إلى ثمانية مجلدات. أما المجلد الأول فهـو يضم الإطار النظري العام (الذي يتجاوز الظاهرة اليهودية)، فهو بمنزلة المستوى الأكثر تجريداً وكلية، نشرح فيه النموذج الأكبر وما يتفرع عنه من نماذج صغرى، بل نشرح فيه فكرة النموذج ذاتها كأداة تحليلية كما نشرح المصطلحات التي نستخدمها. وتناولنا في المجلدين الثاني والثالث الإشـكاليات العامة المتعلقة بدراسة الشأن اليهودي. وفي المجلد الرابع خفضنا مستوانا التعميمي، فتناولنا تواريخ الجماعات اليهودية كلاًّ على حدة في مختلف بلدان العالم والتشكيلات الحضارية. ولذا، كان التقسيم هنا جغرافياً، فهناك باب عن فرنسا وآخر عن إنجلترا وعدة أبواب عن كلٍّ من روسيا وبولندا والولايات المتحدة. وحاولنا أن نبيِّن التجليات المتعيِّنة للإشكاليات النظرية العامة في كل بلد على حدة، كما حاولنا أن نبيِّن بعض الجوانب التي لا تندرج بالضرورة تحت إطار النموذج المطروح. كما بيَّنا التطور التاريخي داخل كل بلد في جانبيه العام والخاص. ففي بولندا، مثلاً، أفردنا عدة مداخل لتاريخ بولندا ومداخل مسـتقلة لطبقـة الشـلاختا والإقطاع الاسـتيطاني وجماعات الهايدماك، وهكذا. وتناول المجلد الخامس اليهودية، والسادس الصهيونية ، والسابع إسرائيل. أما المجلد الثامن فيضم آليات الموسوعة وملحق خاص بالمفاهيم والمصطلحات الأساسية وثبت تاريخي والفهارس الألفبائية.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:01 AM
وقُسِّم كل مجلد في الموسوعة إلى أجزاء أقل عمومية من عنوان المجلد. فالمجلد الثاني يُسمَّى «إشكاليات» حيث يتناول كل باب إشـكالية بعينها (طبيعة اليهود في كل زمان ومكان ـ إشـكالية الجوهر اليهودي ـ يهود أم جماعات يهودية؟ ـ يهود أم جماعات وظيفية يهودية؟ ـ إشكالية العداء الأزلي لليهود). وقُسِّم كل جزء إلى أبواب مختلفة، وكل باب يضم مداخل مختلفة تبدأ عادةً بما يمكن تسميته «المدخل المظلة» (المدخل العام بالنسبة لهذا الباب) وهو المدخل الذي تُطرَح فيه إشكالية الباب ككل، وفيه تتم محاولة الإجابة عنها من خلال النموذج التفسيري الجديد. ويعقب ذلك المدخل الرئيسي مداخل تفصيلية تمثل التطبيق والتوضيح لما جاء في المدخل الرئيسي، وهي أيضاً بمنزلة الوصف التفصيلي المُكثَّف الذي يوضح النموذج بشكل متعيِّن ويُبيِّن تجلياته المختلفة وتحوراته. كما أنه يقوم بتعديل النموذج ويتجاوزه دون إلغائه. فنحن ننكر، على سبيل المثال، أن البُعد اليهودي في إسهامات المبدعين من أعضاء الجماعات اليهودية له قيمة تفسيرية عالية، ولكننا مع هذا أدرجنا مداخل عن ظواهر وشخصيات لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء البُعد اليهودي، فكأننا ننبه القارئ بذلك إلى فعالية نموذجنا التفسيري وعدم شموليته في الوقت نفسه.

والعلاقة بين مداخل الموسوعة ليست عضوية أو صلبة، فهي تَجَل لنفس النموذج، ولذا لابد أن تكون ثمة علاقة تَماثُل قوية بينها. ولكن التماثل ليس ترادفاً، ولذا فإن هناك فراغات بين المداخل هي تعبير عن قدر من عدم التجانس والانقطاع وعدم الترابط الذي لا يؤدي بالضرورة إلى نفي فكرة الحقيقة. وعلى القارئ أن يتخيل وجود عبارة "والله أعلم" مع نهاية كل مدخل (وتظهر بالفعل في نهاية المدخل الأخير من كل مجلد) تعبيراً عن هذا البحث عن الحقيقة الذي يعرف من يخوضه مسبقاً أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة والكاملة مستحيل، ففوق كل ذي علم عليم. وقد يحاول القارئ أن يقوم بعملية الربط، وقد يكتشف أن الظاهرة موضع الدراسة تتَّسم بالاستمرار والانقطاع، وأن الأجزاء لا تلتحم عضوياً مع الكل، وأن القصة الكبرى لا تبتلع القصص الصغرى. وقد رُتبت المداخل حسب منطق محدد، وكان الترتيب في معظم الأحيان هرمياً، بحيث نبدأ بالأكثر عمومية وأهمية ونتدرج منه لنصل إلى الخاص وربما الهامشي. والمداخل التفصيلية المختلفة (الشخصيات ـ الجمعيات) ليست شاملة وإنما مُمثِّلة وحسب لما نتصور أنه حالات مختلفة لنفس النموذج، حالات لها دلالة من ناحية المنهج أو من ناحية الممارسة التاريخية المتعيِّنة.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:01 AM
وقد حاولت الموسوعة أن تجمع بين التعاقب الذي يكشف البُعد التاريخي للظاهرة (المتغيِّر عبر الزمان) والتزامن الذي يكشف البُعد البنيوي (المستقر نسبياً عبر الزمان). ففي المجلدات الثلاثة الخاصة بالجماعات اليهودية (من المجلد الثاني إلى المجلد الرابع)، تناول المجلدان الثاني والثالث موضوعاتهما من منظور التزامن (إشكاليات عامة ـ إشكاليات التحديث والثقافات) وكان البُعد التاريخي ثانوياً بالنسبة للبُعد الإشكالي والبنيوي. أما في المجلد الرابع، فالعكس هو الصحيح إذ تناولنا تواريخ الجماعات اليهودية وأصبح البُعد البنيوي ثانوياً. وطبقنا المبدأ نفسه داخل المجلدات الخاصة باليهودية والصهيونية وإسرائيل. وبنية المداخل نفسها تتضمن التعاقب والتزامن، فمعظم المداخل الرئيسـية تبدأ بمحـاولة تفكيكية حيث يرفض كل مدخـل التعـريف القـائم إن كانت مقدرته التفسيرية ضعيفة، ثم يطرح مصطلحاً جديداً من خلال عملية تركيب جديدة تركز على السمات البنيوية الأساسية التي تجاهـلها أو هَمَّشها النمـوذج القديم، ثم يتم عرض لتاريخ الظـاهرة. وفي آخر المدخـل، نطرح بعـض الإشكاليات. ومع هذا، يتنوع شكل المداخل فلم يتم تنميطها تماماً حتى يمكن أن تتناول هذه المداخل المنحنيات الخاصة للظواهر المختلفـة. ورغم أن هذا التناول للظواهـر موضـع الدراسـة تناول نماذجي، إلا أننا حاولنا قدر استطاعتنا أن نزود القارئ بالمعلومات التي نبرهن بها على المقدرة التفسيرية لنموذجنا وبما نراه ضرورياً حتى ولو كان الأمر لا يخدم إطارنا التفسيري. ويُلاحَظ أن كل مدخل هو وحدة مستقلة، قائمة بذاتها، ولكنها تنتمي إلى كل. وبسبب هذا، فإن هناك بعض التكرار إذ أن استقلالية المدخل كانت تتطلب ذكر بعض العناصر التي وردت في مداخل أخرى.

الـمصـطـلح
كلمة «مصطلح»، وهي على زنة «مُفتَعَل»، من الفعل «اصْطَلَح»، أو قولهم «اصطلح القوم» أي «زال ما بينهم من خلاف» و«اصطلحوا على الأمر» أي «تعارفوا عليه واتفقوا» و«تصالحوا» بمعنى «اصطلحوا». و«مصطلح» هو «الاصطلاح». و«الاصطلاح» اسم منقول من مصدر الفعل «اصطلح» ومعناه اتفاق طائفة ما على شيء مخصوص، ولذا سُمِّي علم الاصطلاح «علم التواطؤ». ولكل علم اصطلاحاته. و«الاصطلاح» في العلم هو اتفاق جماعة من الناس المتخصصين في مجال واحد على مدلول كلمة أو رقم أو إشارة أو مفهوم، وذلك يتم عادةً نتيجة تراكم معرفي وحضاري وممارسـات فكرية لمدة من الزمن، ويتبع ذلك محـاولة تقنين هذه المعرفة.

وتحديد المفاهيم والمصطلحات مسألة ضرورية لضبط وتنظيم العملية الفكرية وتأطير ممارسات الفكر الاجتماعي في سياق منهجي بعيداً عن الفوضى والشتات الذهني، من أجل صياغة منطق مشترك بين تفاعلات الأفراد.

ساجدة لله
2010-10-23, 05:01 AM
ومشكلة المصطلح لها شقان:

أ ) محاولة توليد مصطلحات جديدة نتيجة تعريف المفاهيم ووصف الظواهر الأسـاسية ثم تسميتها.

ب) ترجمة المصطلح، فالترجمة شكل من أشكال التفسير، ومترجم المصطلح يجد نفسه، شاء أم أبى، متوجهاً للقضايا الفلسفية والمعرفية الكامنة وراء المصطلح.

والقضيتان رغم انفصالهما متداخلتان وتثيران الإشكاليات نفسها.

ولكن، إذا كان المصطلح أو الاصطلاح تصالحاً، فما العمل إن كان من يسك المصطلح لم يتصالح معنا؟ أو كان يسك المصطلح لتغييبنا نتيجة لخصومته معنا ولأن وجودنا يعني غيابه؟ أو يسك مصطلحاً يخبئ مفاهيم وقيماً تتنافى مع مفاهيمنا وقيمنا، ويتبنى نموذجاً تحليلياً معرفياً متحيزاً ضدنا؟ وهذه هي الإشكالية التي تواجهنا بخصوص المصطلحات المستخدمة في وصف الظواهر اليهودية والصهيونية. فقد تم سكها في العالم الغربي بعناية بالغة، وهي مصطلحات تنبع من تجارب تاريخية ونماذج تحليلية ورؤى معرفية ووجهات نظر غربية وصهيونية، متمركزة حول الذات الغربية واليهودية، وتحتوي على تحيزات إنجيلية وإمبريالية وعرْقية لا نشارك فيها بل نرفضها، وهي تحيزات جعلت الدارسين الغربيين والصهاينة يضخِّمون كثيراً من جوانب بعض الظواهر ويهملون الجوانب الأخرى، وجعلتهم يفترضون وجود وحدة حيث لا وحدة، ولا يدركون في الوقت نفسه العلاقة بين ظواهر نرى نحن أنها وثيقة الصلة. وهي مصطلحات تعبر عن خلل واضح (من وجهة نظرنا) في المستوى التعميمي والتخصيصي، فيتحدثون بصيغة العام عن ظواهر خاصة وفريدة، وبصيغة الخاص عن ظواهر عامة، ويُهمِّشون ما هو مركزي وأساسي ويضفون صفة المركزية على ما هو هامشي من وجهة نظرنا. ويمكن أن ندرج بعض سمات المصطلحات الغربية/الصهيونية فيما يلي: ـ

1 ـ تنبع المصطلحات الغربية من المركزية الغربية، فالإنسان الغربي يتحدث، على سبيل المثال، عن «عصر الاكتشافات» وهي عبارة تعني أن العالم كله كان في حالة غياب ينتظر الإنسان الأبيض لاكتشافه. والصهاينة يشيرون أيضاً إلى أنفسهم على أنهم «رواد»، والرائد هو الشخص الذي يرتاد مناطق مجهولة فيستكتشفها بنفسه ويفتحها لينشر الحضارة والاستنارة فيها بين شعوبها البدائية.

وحروب العالم الغربي تُسمَّى «الحروب العالمية» ونظامه الاستعماري يُسمَّى «النظام العالمي الجديد». ويتبع الصهاينة نفس النمط، فقد كان هرتزل يحاول تأسيس دولة يضمنها «القانون الدولي العام» وكان يعني في واقع الأمر «القانون الغربي» أو بمعنى أصح «القوى الإمبريالية الغربية». والمنظمة الصهيونية تُوجَد أساساً في العالم الغربي حيث تتركز الغالبية الساحقة ليهود العالم إذ لا يوجد يهود في الصين أو الهند أو اليابان أو في معظم بلاد آسيا (باستثناء بضعة أفراد في الصين وبضع عشرات في اليابان وبضع مئات في الهند). ولا يوجد يهود في أفريقيا إلا في جنوب أفريقيا (في الجيب الاستيطاني الغربي) وبضعة آلاف في المغرب. ورغم هذه الحقيقة، إلا أن المنظمة الصهيونية تشير إلى نفسها باعتبارها «المنظمة الصهيونية العالمية» لا «المنظمة الصهيونية الغربية». وحينما صدر وعد بلفور، وردت فيه إشارة إلى «الجماعات غير اليهودية»، أي سكان فلسطين من العرب البالغ عددهم آنذاك ما يزيد عن 95% من عدد السكان، أي أن الغالبية الساحقة من سكان فلسطين تم تهميشها لصالح المستوطنين الصهاينة. ولا يمكن فهم عملية التهميـش هذه إلا في إطار أن الصهاينة هنا هم ممثلو الحضارة الغربية التي تظن أنها تحتل مركز الكون والتاريخ، ولذا فإن حقوقهم في فلسطين حقوق مركزية مطلقة. أما حقوق غيرهم من البشر ممن أقاموا في هذه الأرض وزرعوها وحصدوا ثمارها وبنوا منازلهم فيها عبر آلاف السنين، فهي هامشية، وهم مجرد جماعات غير يهودية.