المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 [23] 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
وصاحب المؤشِّرات الاختزالية جاهز دائماً بآلياته الرصدية وجداوله البحثية واستبياناته، ولكنه جاهز بالدرجة الأولى بأطروحته الاختزالية التي تُفسِّر كل شيء ويُردُّ إليها كل شيء. فالأمور إن هي إلا: عناصر اقتصادية ـ صراع من أجل البقاء ـ دوافع جنسية ـ شهوة للسلطة ـ مؤامرة بلشفية ـ مؤامرة يهودية ـ مؤامرة إسلامية متطرفة. ويتم الرصد في إطار هذه الأطروحة وتُستخدَم المؤشِّرات للتوثيق الذي لا ينتهي. وبذلك يصبح المؤشِّر ليس طريقة لاكتشاف الواقع وإنما لتسطيحه وتبسيطه وتسويته.

ينظر صاحب المؤشِّرات الاختزالية حوله جاهزاً بأطروحاته البسيطة، ويتحول كل ما حوله إلى مؤشِّرات تثبت ما يؤمن به دون أي قلق أو اجتهاد أو إشكاليات. وبدلاً من اكتشاف الواقع وإعادة اكتشافه، يقوم هو بعملية رصد موضوعي متلقٍ وتوثيق سطحي. فإن اشترك يهودي أمريكي في مظاهرة من أجل إسرائيل، فإن الأمور منتهية والدلالة واضحة، فالظاهر والباطن واحد، والمثير والاستجابة متصلان. فاشتراك هذا اليهودي في مثل هذه المظاهرة دليل صلب لا يُدحَض على أنه صهيوني متعاطف مع إسرائيل. وإن ضُبطت مجموعة من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية، فإن المسألة أيضاً منتهية، فهذا مؤشِّر صلب على أن اليهود أشرار ينشرون الفساد في الأرض. وإن قررت الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس، فإن المسألة واضحة وسهلة وتنهض دليلاً على سطوة اللوبي الصهيوني. وإن صرح أحدهم أن أبواب الهجرة من الاتحاد السوفيتي ستُفتَح أمام اليهود فهذه ولا شك جريمة العصر إذ من المتوقع أن تهاجر الملايين، لأن الأطروحة السائدة أن اليهود يهاجرون إلى إسرائيل كلما سنحت لهم الفرصة!.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
وما يغيب في هذه الاستجابات هو الإحساس بتركيبية الواقع وأن الظاهر ليس هو الباطن. ومن ثم، فإن الأطروحات البسيطة لا تكفي، والمؤشِّرات الواضحة البسيطة لابد أن تثير في أنفسنا الشك. فالإنسان ظاهرة مركبة إلى أقصى حد، ظاهرة تحوي داخلها عناصر لا يمكن بأية حال ردها إلى النظام الطبيعي (الوعي ـ الحس الخلقي ـ الحس الجمالي ـ المقدرة على مراقبة الذات وتغييرها ـ المقدرة على فعل الخير وعلى فعل الشر بشكل واع ونتيجة اختيار حر ـ المقدرة على استخدام الرموز في العمليات الإدراكية). وهذه العناصر تتجلى في أشكال ملموسة مختلفة، ولكن إدخالها في شبكة السببية الصلبة والتوصل إلى مؤشِّرات مادية عليها أمر عسير في معظم الأحيان ومستحيل في بعضها، ولعل هذا هو سبب صعوبة التنبؤ بسلوك الإنسان. ولكن يظل من الضروري، مع هذا، استخدام المؤشِّرات والتعميم منها، فبدونها لا يمكن رصد الواقع ولا يمكن رؤية الأنماط الكامنة وراء سيل المعطيات والمعلومات ولا يمكن أن يقوم علم. ولكن لابد أن تحاول المؤشِّرات أن تفلت من قبضة النماذج الاختزالية التي تُجمِّد الواقع وتُسطِّحه، وأن ندرك عدة قضايا أساسية عند استخدام المؤشِّرات.

1 ـ لعل من الواجب أن ندرك قصور المنطلقات المعرفية للنماذج الموضوعية المتلقية المادية التي تظن أن الإنسان إن هو إلا ظاهرة طبيعية، ويجب تَبنِّي منطلقات الرؤية التفسيرية الاجتهادية التي تنطلق من ثنائية الإنسان والطبيعة والتي تؤكد أن الإنسان ليس إنساناً طبيعياً وإنما إنسان غير طبيعي، رباني، إنساني. هذا الاختلاف بين الإنسان والطبيعة (المادة) يُعبِّر عن نفسه في الاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية والمؤشِّر في العلوم الإنسانية. ولنأخذ على سبيل المثال مستوى التعميم الذي يمكن أن يطمح إليه الباحث. إن أي علم لابد أن يستند إلى قدر من التعميم، وإلا لما أصبح علماً. ولكن التعميم في العلوم الطبيعية يصل إلى مستويات أعلى بكثير من المستويات التي تصل إليها العلوم الإنسانية، إذ أن عنصري الزمان والمكان بالنسبة للعلوم الطبيعية ليسا في أهميتهما بالنسبة للعلوم الإنسانية. ولذا، فإننا نجد أن التعميم في العلوم الإنسانية يكون بمثابة إطار عام يتم من خلاله تصنيف مجموعة من الظواهر، وتظل كل ظاهرة محتفظة بخصوصيتها واستقلاليتها عن الإطار الكلي. ومن هنا، فإننا نجد أن التعميم في العلوم الإنسانية يظل لصيقاً إلى حدٍّ ما بالمادة المستخدمة في الوصول إلى التعميم. ولذا، فإنه يُقبَل في العلوم الإنسانية بقدر من التناقض بين النظرية والظواهر المختلفة لا يُسمَح به في العلوم الطبيعية. كما يُلاحَظ أن التعميمات في العلوم الإنسانية كثيراً ما يتم تعديلها من خلال عملية التطبيق، ذلك لأن العلاقة بين المؤشِّر (العام) والظاهرة (الخاص) في العلوم الإنسانية علاقة حلزونية تبادلية. فنحن يمكن أن نصل إلى تعميم مفاده أن الجماعات الوظيفية اليهودية، بعد ظهور الدولة القومية، تتحول عادةً إلى طبقات متوسطة. ويمكن تعريف الطبقة المتوسطة من خلال الدخل والمكانة وأسلوب الحياة، ويمكن استخدام هذا كمؤشِّر عام. ولكن، عند التطبيق، لابد أن نَلزَم الحذر، فأعضاء الجماعات اليهودية من أعضاء الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة ليس لهم أية خصوصية، وإن كان ثمة خصوصية فليس لها أهمية تفسيرية كبيرة. أما في جنوب أفريقيا، في إطار المجتمع الاستيطاني، فإنها تصبح طبقة متوسطة استيطانية، الأمر الذي يمنحها خصوصية لها قيمة محورية في عملية التفسير، فعلاقة الطبقة المتوسطة في جنوب أفريقيا بالطبقة العاملة السوداء تختلف تماماً عن علاقة الطبقة الوسطى في بلد مثل فرنسا مع الطبقة العاملة فيها. أما في أمريكا اللاتينية، فإن قولنا إن أعضاء الجماعات اليهودية انخرطوا في صفوف الطبقة المتوسطة هو من قبيل التجاوز. فهم طبقة متوسطة من ناحية الدخل والمقاييس الخارجية والمهنية، ولكنهم مع هذا احتفظوا ببعض ملامح الجماعة الوظيفية المالية. ومن بين هذه الملامح العلاقة مع النخبة الحاكمة، إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية كانوا غير مُمثَّلين (حتى عهد قريب) في النخبة الحاكمة بسـبب التكـوين الحضاري الخاص للمجتـمعات اللاتينيـة. فرغم أنها مجتمعات استيطانية، إلا أنها لم تصل إلى درجة عالية من العلمنة والانفتاح كما حدث على سبيل المثال في الولايات المتحدة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
2 ـ يجب أن ندرك أن مضمون المؤشِّر في العلوم الإنسانية ليس مباشراً، فظاهر الإنسان يختلف عن باطنه، إذ لابد أن يَكد الباحث لتحديد المعنى الحقيقي للمؤشِّر، ولذا يمكن أن تكون بعض المؤشِّرات متشابهة بشكل سطحي، ولكننا بعد شيء من التعمق فيها سنكتشف أنها تشير إلى مدلولات مختلفة بل متناقضة. والعكس صحيح، إذ يمكن لمؤشِّرات أن تبدو متناقضة ولكن بعد شيء من التعمق يتضح أنها تشير إلى مدلول واحد.

ولنضرب بعض الأمثلة على ما نقول: إن هجرة اليهود من بلادهم إلى إسرائيل هو مؤشِّر على أن ثمة عناصر طرد في بلادهم الأصلية وعناصر جذب في إسرائيل وتدل على فشلهم في الاندماج في مجتمعاتهم. وبناءً على هذا التعميم المعقول، بل البديهي، يمكن القول بأن هجرة يهود جورجيا هي تعبير عن نفس الاتجاه. ولكننا لو تعمقنا قليلاً لوجدنا أن هجرة يهود جورجيا تعبير عن اندماجهم في مجتمعهم، فجماهير جورجيا السوفيتية (قبل سقوط الاتحاد السوفيتي) كانت تناصب الدولة السوفيتية العداء، وأعضاء الجماعات اليهودية كانوا جزءاً لا يتجزأ من هذه الجماهير ومن مجتمعهم الجورجي. وبالتالي، فإن الخروج من جورجيا والذهاب إلى إسرائيل (عدو الاتحاد السوفيتي اللدود) ليس خروجاً يهودياً بل هو خروج جورجي وتعبير عن حركيات المجتمع الجورجي وعن رفض الهيمنة السوفيتية. وإذا نظرنا إلى يهود بني إسرائيل في الهند فسنجد أنهم يعيشون في عزلة (وهذا يؤخذ كمؤشِّر على عدم اندماجهم). ولكننا سنكتشف أن المجتمع الهندي مبني على نظام الطائفة المغلقة، وأن من ينتمي إلى هذا المجتمع عليه أن يُنظِّم نفسه على هيئة طائفة مغلقة، وهذا ما فعلته الجماعات اليهودية في الهند، فعزلتها هي تعبير عن اندماجها.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
3 ـ يجب أن ندرك أن مضمون المؤشِّر في العلوم الإنسانية مرتبط إلى حدٍّ كبير بالمعنى الداخلي الذي ينسبه الفاعل إليه ومرتبط بالدلالة الرمزية للمُعطَى المادي (وهو أمر غير متوافر وغير وارد في العلوم الطبيعية). ولنأخذ هجرة اليهود السوفييت من الاتحاد السوفيتي كمثل. إذا لم نعرف دوافع المهاجرين للهجرة وظروف هجرتهم، فلن نتمكن من فهم اتجاه حركتهم. فإذا افترضنا ـ كما يفعل الصهاينة ـ أن الدافع للهجرة هو العودة إلى أرض الميعاد، فإن اتجاه اليهود السـوفييت إلى الولايات المتحـدة يبدو كما لو كان غباءً منهم. ولكننا إذا عرفـنا أن دوافعهم هي الحراك الاجتماعي، لأصبحت الهجرة إلى الولايات المتحدة أمراً منطقياً جداً. ويؤدي تنوع المعنى الداخلي إلى تنوع الدلالات لنفس المؤشِّر المادي، ولذا فإن ثمة مؤشِّراً مادياً واحداً قد يشير إلى أكثر من مدلول أو إلى المدلول وعكسه. وقد درس الزعيم الصهيوني بن جوريون دوافع يهود الولايات المتحدة وتركيبتهم الأيديولوجية والنفسية، وخلص من هذا إلى أن صهيونية كثير من يهود أمريكا التي تتبدَّى في دفع التبرعات لإسرائيل والتظاهر من أجلها ليست تعبيراً عن رغبتهم في العودة إلى أرض الميعاد أو تمسُّكهم بهويتهم وإنما هي محاولة لتغطية اندماجهم في المجتمع الأمريكي وإرضاءً لضمائرهم اليهودية المتعبة. فكأن المؤشِّر هنا (ادعاء الصهيونية) يشير إلى عكس مضمونه الصهيوني التقليدي (تماسك الهوية اليهودية). ولذا، رغم أن كثيراً من يهود أمريكا متعصبون ويعلنون صهيونيتهم بشراسة غير عادية، إلا أن المُلاحَظ أنهم لا يذهبون إلى انتخابات المؤتمر الصهيوني ويكتفون بدفع اشتراكات العضوية. ويُلاحَظ أن صهيونية يهود أمريكا تعني أنهم يهود/أمريكيون (على غرار إيطاليون/أمريكيون) أي أن إسرائيل مسقط رأسهم. ولكن مسقط الرأس هو المكان الذي يهاجر منه الإنسان لا إليه. ومرة أخرى نلاحظ أن المضمون الحقيقي لصهيونية يهود أمريكا ليس صهيونياً.

وهناك، كذلك، متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة الذي افترض بعضهم أنه مؤشِّر على النفوذ الصهيوني. ولكن، بعد دراسة الأمر، ظهر أن يهود أمريكا قد أسسوا هذا المتحف دفاعاً عن هويتهم اليهودية الأمريكية وتأكيداً على أن أمريكا (وليس إسرائيل) هي وطنهم، وأنها ليست المنفى الذي يتحدث عنه الصهاينة. ولذا، لم يسعد صهاينة إسرائيل كثيراً بهذا المتحف إذ جعل مركز يهود أمريكا في أمريكا نفسها.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:14 AM
ولنأخذ ظاهرة حب اليهود وكرههم. فإذا عرفنا مثلاً أن حب بلفور لليهود كان يُعبِّر عن رغبته في التخلص منهم، فإننا سنكتشف أن حب بلفور لهم لا يختلف كثيراً عن كره هتلر لهم. إن المعنى الداخلي للمؤشِّر مرتبط تماماً برؤية الفاعل إلى الكون، فكأن المضمون المحدَّد والمتعيِّن للمؤشِّر يتحدَّد إلى حدٍّ كبير في إطار رؤية الفاعل. وثمة نقطة هامة أخرى مرتبطة تماماً بقضية المعنى الداخلي وهي أن رؤية الفاعل، ظاهرة كانت أم كامنة، مختلفة عن أمنياته وعن أقواله. فقد تتطابق الأمنيات والأقوال مع الرؤية إلى الكون، وقد تتناقض جزئياً أو كلياً معها. والمتتالية المحتملة والمشروع والبرنامج كثيراً ما تختلف عن المتتالية المتحققة وعن النتائج الفعلية، ويجب ألا يخلط الباحث الواحد بالآخر، فيأخذ البرنامج السياسي باعتباره مؤشِّراً صلباً على ما سيحدث.

4 ـ يرتبط بالعنصر السابق قضية استطلاعات الرأي التي يُنظر إليها باعتبار أنها مؤشِّرات صلبة على الاتجاهات السياسية في مجتمع ما. فتُوجَّه أسئلة واضحة يمكن الإجابة عنها بنعم أو لا، ثم تُصب المعلومات في جداول ويُقسَّم أصحاب الإجابات إلى صقور وحمائم مثلاً. والتقسيمات الثنائية تكون عادةً مغرية ولكن اختزالية، إذ لا يُعقل أن يكون الواقع بمثل هذه البساطة. فإن سُئِّل إسرائيلي هل أنت مع السلام؟ ستكون إجابته ولا شك "نعم أنا مع السلام"، إذ من النادر أن يوجد إنسان قادر على أن يقول أنا ضد السلام ومع سفك الدماء. فالسؤال الساذج يؤدي إلى إجابة ساذجة. ولكن الثنائيات المتعارضة لا يمكنها أن تصل إلى تركيبية الواقع وتموجاته. وثمة أسئلة يمكن الإجابة عنها بـ «نعم» على مستوى و«لا» على مستوى آخر، و«نعم ولا» في آن واحد على مستوى ثالث. وهناك أيضاً الدوافع المركبة (بعضها خفي وبعضها على مستوى اللاوعي). فقد بيَّنت إحدى إحصاءات الرأي في الاتحاد السوفيتي أن 17% من يهود الاتحاد السوفيتي يتحدثون اليديشية. ولكنهم، بعد مراجعة الأرقام، وجدوا أن جزءاً كبيراً منهم قد صرح بأن اليديشية لغته كجزء من تأكيد هويته وكجزء من الاحتجاج على الدولة السوفيتية، وأن هؤلاء في واقع الأمر لا يتحدثون اليديشية، والأهم من هذا أنهم لا يرسلون أولادهم لتعلُّم اليديشية، وبالتالي فاستطلاع رأي هؤلاء لا يجدي كثيراً إذ أن ولاءهم العقائدي وأحلامهم المثالية هي التي تحدد إجابتهم وليس واقعهم الفعلي. وفي أحد استطلاعات الرأي في إسرائيل، قالت أغلبية المشتركين إنهم من مؤيدي مؤتمر السلام، فقام أحد الصحفيين باستطلاع رأي آخر ليتأكد أن المشاركين يعنون ما يقولون ليكتشف أن 80% لا يعرفون مؤتمر السلام هذا ولا أهدافه. وكمحاولة للتوصل إلى إطار أكثر تركيباً، اقترحت في إحدى دراساتي، بدلاً من الصقور والحمائم، أن يكون هناك صقور وحمائم ودجاج (يفر) ونعام (يتجاهل الواقع)، واقترحت المزيد من " الطيور الإدراكية".

ساجدة لله
2010-10-23, 06:15 AM
5 ـ يجب أن ندرك أن المؤشِّر في العلوم الإنسانية يشير إلى عالم الإنسان المركب الذي يوجد فيه ما هو جوهري وما هو هامشي، وأن المؤشِّر على الجوانب الجوهرية للظاهرة أكثر أهمية من المؤشِّر على الجوانب الهامشية. فيمكن أن يورد الإنسان مؤشِّرات صلبة ولكن ليست لها مقدرة تفسيرية عالية أو مركزية. ولذا، إن بيَّن أحد أن كل نساء ولاية إلينوي ممن تجـاوزن سن الأربعين يؤيدن الدولة الصهيونية، فلابد أن يكون ذلك الأمر مهماً ولكنه أقل أهمية عن معـرفة أن مستشاري الأمن القـومي في الولايات المتحـدة (من يهـود وغـير يهود) مؤيدون لإسرائيل.

6 ـ كما ينبغي، بقدر الإمكان، الاحتفاظ بالبُعد المعرفي النهائي للمؤشِّر إذ سيساعدنا هذا على التمييز بين المهم والأقل أهمية، وبين الهامشي والجوهري والنماذجي، وبين الجزء والكل، وبين الأمنية والحقيقة، وبين المضمون المتعيِّن للمؤشِّر وأي مضمـون عشـوائي. فالمؤشِّر بدون بُعد معرفي (وفي إطار محـايد) قد يصـلح لأن يكون مؤشِّراً على أي شيء.

ويجب أن ندرك أن المؤشِّر، مهما بلغ من شفافية أو سطحية أو وضوح، له بُعده المعرفي. وحين يأخذ دارس ما اشتراك أمريكي يهودي في مظاهرة تأييد لإسرائيل دليلاً واضحاً على صهيونية هذا اليهودي، فلابد أنه يؤمن، في واقع الأمر بشكل ما، أن كل يهوديٍّ صهيونيٌّ بشكل فعلي أو محتمل، أي أنه يؤمن ببساطة الدوافع الإنسانية وأحاديتها وجمود الطبيعة البشرية. أو كما يقولون بالإنجليزية " وانس أي جو ألويز أي جو Once a Jew, always a Jew من وُلد يهودياً يظل كذلك مدى حياته ". وكلمة «يهودي» هنا تشير إلى مجموعة من الصفات التي يُفترَض فيها أنها يهودية. وهذه رؤية سطحية يائسة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:15 AM
7 ـ وفي تحليل المضمون تؤخذ الكلمات والجمل كمؤشِّرات على أفكار أو مواقف من استخدمها أو نطق بها. ويمكن أن تدور الكلمات والجمل في إطار النماذج الاختزالية فيتم تصنيفها بشكل سطحي مباشر، وكأنها انعكاس بسيط لواقع المتحدث، وكأن الكلمات أدوات شفافة تُوصِّل ما يريد الإنسان التعبير عنه بشكل مباشر. وتبدأ عملية الإحصاء والرسوم البيانية التي لا تلامس إلا السطح. ولتجاوز هذا لابد أن يُدرك الباحث أن علاقة الدال بالمدلول ليست بسيطة أو سهلة أو مباشرة وإنما بالغة التركيب. فالمدلول يتغيَّر حسب تغيُّر السياق. ولذا نجد أن الدال الواحد مثل «قومية» له مدلول داخل التشكيل الحضاري العربي مختلف عن مدلوله داخل التشكيل الحضاري الياباني. كما أن اللغة المجازية لها أبعاد مختلفة عن اللغة المباشرة. وعلاقة الكلمات بعضها ببعض قد تكون أكثر أهمية من معنى الكلمة في نفسها وما بين السطور قد يُحدِّد معنى الكلمات التي فوقها.

8 ـ وقد يكون من المفيد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة لاحظناها في العالم العربي وهي أن كثيراً من الباحثين ممن هُزموا من الداخل بدأوا يوظفون المؤشِّرات في دعم الهزيمة. وهذه ظاهرة بدأت مع العصر الحديث في العالم العربي. فبعد وصول القوات الغازية الغربية في أوائل القرن التاسع عشر، اهتزت ثقة الإنسان العربي في نفسه، وخصوصاً أنه لم يكن يعرف شيئاً عن الحضارة الغازية (فكرها ـ آلياتها ـ قوانينها ـ نقاط تصورها)، لم يكن يعرف مثلاً أي شيء عن تاريخ النهب الإمبريالي والتراكم الإمبريالي، فتصور واهماً أن الإنسان الغربي قد توصَّل إلى ما توصَّل إليه من نظام ورخاء من خلال إعمال عقله وبذل جهده وعمله لا من خلال استخدام عضلاته وتكنولوجيا الفتك المتقدمة وعمليات النهب المنظمة. وحينما ذهب الطهطاوي إلى باريس لم ير سوى الحرية والثقافة، ولم ير الجوانب المظلمة لهذه الحضارة رغم أنه ذهب إلى هناك عام 1830، وهو نفس العام الذي كانت فيه المدافع الفرنسية تَدُك الجزائر الآمنة. وقد يكون من المهم مقارنة استجابة الطهطاوي باستجابة ذلك الشيخ الجزائري الذي قيل له إن عساكر الفرنسيين قد جاءوا لينشروا الحضارة والمحبة في ربوع الجزائر، فأجاب إجابة مقتضبة جداً: لم أحضروا كل هذه المدافع وكل هذه البارود إذن؟ وهـذا هو السـؤال الذي لم يسأله الطهطاوي ولم يسـأله كثير من الباحـثين ممن وقـعــوا تحت وطأة الهزيمة واسـتبطنوها تماماً. وبدلاً من اكتشاف الواقع الغربي بجوانبه المنيرة والمظلمة، جعلوا شغلهم الشاغل النقل عن الغرب كجزء من محاولة اللحاق به. وبالتدريج، وتحت شعار الموضوعية والواقعية، بدأوا يتجردون من مثالياتهم وتراثهم وإبداعهم وأصبح همهم تَقبُّل الوضع القائم وموازين القوى وأصبح الآخر هو المثل الأعلى. وقد أنتج هذا مجموعة من المؤشِّرات الموضوعية هي في الواقع تعبير عن الهزيمة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:15 AM
وقد حدث شيء مماثل بالنسبة لإسرائيل، فنحن في رصدنا لها لا نركز إلا على مواطن قوتها وتَقدُّمها وتَفوُّقها، وهذه هي الموضوعية والواقعية، أما إذا اكتشفنا نقط ضعف العدو وقصوره وتآكله، فإن هذا يُصنَّف باعتباره خداعاً للذات. إن الذات المهزومة تخضع تماماً للآخر ولا يمكنها أن تتصور أن من الممكن أن تتفاعل داخله عوامل الحياة والانتصار والموت والانكسار. وتدريجياً، يدمن الإنسان الهزيمة إدماناً كاملاً حتى تصبح رؤية للكون لا يستطيع المرء أن يحتفظ بتوازنه بدونها. ومع أطروحة الهزيمة الاختزالية، تحوَّل كثير من الباحثين إلى جند مجندة تخدم العدو بنزاهة موضوعية دون أن تدري، فهي ترصد مواطن قوته، وتُصدِّق كل ما يقوله وتتصرف في إطاره بأمانة مضحكة دون تمحيص، وكيف يتأتى لهم غير ذلك وهم المهزومون من الداخل؟

ويمكن تجاوز النموذج الاختزالي، كما يمكن تحسين أداء المؤشِّر كأداة لمعرفة الواقع بدلاً من أن تُحوِّله إلى أداة تُخفيه تماماً عن عيوننا، وذلك عن طريق إدراك تركيبية الواقع. ويترجم هذا الموقف نفسه إلى تنويع السياقات التي يتم إدراك المؤشِّر في إطارها بحيث يتحول المؤشِّر الصلب من مجرد آلة صلبة لتسطيح الواقع إلى أداة مرنة تكتشف نتوءه ومنحناه الخاص. وهذا لا يتأتى للباحث إلا إذا قام بعملية تثقيف ذاتية فيما يتصل بالسياقات المختلفة المحتملة للمؤشِّر، فإدراكه لهذه السياقات سيُمكِّنه من وضع المؤشِّر داخل نمط عام، كما أنه سيدرك معناه الداخلي والإشكاليات المختلفة المرتبطة به. ولنضرب مثلاً باللوبي الصهيوني الذي تُجمع معظم الكتابات العربية أنه القوة الحقيقية وراء تحركات الولايات المتحدة والعالم الغربي ضدنا. وقد كُتبت كثير من الدراسات انطلاقاً من هذه الأطروحـة البسـيطة وقامت بتوثيقها بعناية بالغـة دون اختبارها أو وضعها هي نفسها موضع الاختبار. وبإمكان الباحث أن يفعل ما يلي حتى يمكنه وضع هذه الأطروحة الصلبة البسيطة موضع التساؤل:

ساجدة لله
2010-10-23, 06:15 AM
1 ـ دراسة جماعات الضغط الأخرى (الشواذ جنسياً ـ المدافعين عن حق المواطن الأمريكي في امتلاك السلاح) لنقارن قوتها بقوة اللوبي الصهيوني، ولنرى هل قوة اللوبي الصهيوني أمر فريد، أم أنها إحدى سمات الديموقراطية الأمريكية (ديموقراطية جماعات الضغط)؟

2 ـ يمكن دراسة الموقف الأمريكي (والغربي بشكل عام) من الصهيونية وإسرائيل قبل ظهور اللوبي الصهيوني وبعد ظهوره ومقارنتها.

3 ـ دراسة تزايد الدعم الأمريكي للصهيونية وإسرائيل وعلاقته باللوبي الصهيوني. وهل هناك علاقة طردية بين هذا التزايد وتزايد قوة اللوبي الصهيوني والحركة الصهيونية أم أن الدعم يتزايد بغض النظر عن قوة أو ضعف اللوبي؟

4 ـ دراسة الدعم الأمريكي لبلد مثل تركيا أو شيلي ليس لهما لوبي وهل الدعم الأمريكي لإسرائيل مختلف عن دعمها لهاتين البلدين؟

5 ـ دراسة الدعم البريطاني لإسرائيل وهل يوجد لوبي صهيوني قوي في إنجلترا أم أن الدعم البريطاني مرتبط بالمصالح الإستراتيجية لبريطانيا؟

6 ـ هل صدرت قرارات أمريكية لدعم إسرائيل بدون ضغط من اللوبي الصهيوني أم أن القرارات لا تصدر إلا من خلال الضغط الذي يمارسه؟

7 ـ دراسـة طريقة صـنع القرار في الولايات المتحـدة ومدى تأثرها بجماعات الضـغط في الأمـور الإستراتيجية الجوهرية.

8 ـ دراسة التوجه الإستراتيجي العام للسياسة الأمريكية وهل تم تحديد هذا التوجه من خلال الضغط الصهيوني أم أن هذه سياسة عليا لم يساهم الصهاينة في صياغتها؟

9 ـ دراسة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (عدوان 1956 وحادثة بولارد) وهل نجح اللوبي الصهيوني في تغيير السياسة؟

10 ـ مقارنة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولحظات التوتر بين السلطات البريطانية في فلسطين والمستوطنين الصهاينة (ولحظات التوتر بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر).

11 ـ دراسة تاريخية للعناصر التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور (أهم إنجاز صهيوني على الإطلاق) وهل لعب اللوبي الصهيوني أي دور في ذلك وماذا كان حجم الدور؟

12 ـ إجراء عمليات عقلية تصورية عن مسار السياسة الأمريكية لو غاب اللوبي الصهيوني وغابت إسرائيل. هل سياسة الولايات المتحدة تجاه القومية العربية (على سبيل المثال) كانت ستتغيَّر لو أن يهود العالم وإسرائيل اختفوا من على وجه الأرض أم أن ملامحها الأساسية ستظل كما هي؟

يتبع
الجزء الثالث

ساجدة لله
2010-10-23, 06:15 AM
الجزء الثالث



الباب الأول: الحلولية ووحدة الوجـود والكمونية
الحلولية ووحدة الوجود والكمونية: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل
هناك عدد من المصطلحات تُستخدَم للإشارة إلى مفهوم الحلول، وهي تُستخدَم أحياناً كمترادفات وأحياناً أخرى كمصطلحات تُشير إلى مفاهيم متقاربة. ويُلاحَظ أن المعاجم الفلسفية واللغوية المختلفة لا تتفق على معنى محدَّد أو دقيق لهذه المصطلحات، ولذا فإن حقلها الدلالي يتداخل بشكل كبير. ومن أهم المصطلحات ما يلي:

1 ـ «الحلولية»: وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية «إنفيوشن infusion».

2 ـ «وحدة الوجود»: وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية كلمة «بانثيزم pantheism».

3 ـ «الكمون»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إمنانس immanence».

4 ـ «الباطن والباطنية»: ولها ترجمات عديدة باللغة الإنجليزية مثل: «إسوتريك esotiric»، كما تترجم إلى «أَكَّلت occult» بمعنى «الخفي»، وإلى «إنترنزيك intrinsic» بمعنى «جزء لا يتجزأ»، و«إيمنينت immanent» أي «كامن».

5 ـ «المحايثة»: وهي ترجمة أخرى لكلمة «إمنانس immanence» الإنجليزية.

6 ـ «الاتحاد»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «يونيان union».

7 ـ «الفناء»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنيهيليشن annihilation».

8 ـ «الفيضية»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إمانتيزم emanatism».

9 ـ «التجسد»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إنكارنيشن incarnation».

10 ـ «النفسانية الشاملة»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة: «بان سايكيزم pansychism».

11 ـ «المبدأ الحيوي»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنيميزم animism».

12 ـ «إسقاط الصفات الإنسانية على كل الكائنات»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنثروبومورفيزم anthropomorphism».

13 ـ «الماكروكوزم (الكون الأكبر) والميكروكوزم (الكون الأصغر، أي الإنسان)»: وتقابلها في الإنجليزية عبارة «ماكروكوزم آند ميكروكوزم macrocosm and microcosm».

وما يهمنا في المداخل المختلفة عن بعض هذه المصطلحات ليس تحديد معنى أو تعريف كل مصطلح على حدة، وإنما تحديد الحقل الدلالي العريض والإشارة إلى العناصر المشتركة والمتداخلة بين المصطلحات.