المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 [29] 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:26 AM
والفرق بين ما نسميه «العلمانية الجزئية» وما نسميه «العلمانية الشاملة» هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنفس النموذج؛ حلقات في نفس المتتالية. ففي المراحل الأولى للمتتالية تتسم العلمانية بالجزئية حينما يكون مجالها مقصوراً على المجالين الاقتصادي والسياسي، حين يكون هناك بقايا مطلقات مسيحية وإنسانية، وحين تتسم الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة بالضعف والعجز عن اقتحام (أو استعمار) كل مجالات الحياة، وحين يكون هناك معيارية إنسانية أو طبيعية/مادية. ولكن، في المراحل الأخيرة، ومع تزايد قوة الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة وتَمكُّنه من الوصول إلى الفرد وإحكام القبضة عليه من الداخل والخارج، ومع اتساع مجال عمليات العلمنة وضمور المطلقات واختفائها وتهميش الإنسان وسيادة النسبية الأخلاقية ثم النسبية المعرفية، تظهر العلمانية الشاملة.

وما طرحناه هو متتالية نماذجية، أي متتالية مجردة. وتاريخ العلمنة في العالم الغربي يختلف عن تاريخ العلمنة في العالم الثالث. بل يختلف تاريخ العلمنة من بلد إلى بلد وداخل كل تشكيل حضاري. فتاريخ العلمنة في إنجلترا يختلف عن تاريخ العلمنة في الولاياـت المتحـدة وروسيا القيصـرية وألمانيـا النازيـة، تمامـاً كمـا يختلف تاريـخ العلمـنة في اليـابان عنـه في الهنـد أو فـي تركـيا. كمـا أن هناك دائماً حركـات مقـاومة واحتـجاج. فرغم أننا دخلنا مرحلة السيولة الشاملة إلا أن هناك جيوباً إنسانية (هيومانية) ومسيحية لا تزال تحاول تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة، وهناك عقلانيون ماديون يحاولون تأكيد الطبيعة/المادة باعتبارها مصدراً للمعيارية.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:26 AM
ولكن، مع هذا، يظل لهذه المتتالية مقدرة تفسيرية عالية إذ يمكن من خلالها أن ندرك الفرق بين المجتمع الإنجليزي في منتصف القرن الثامن عشر والمجتمع الإنجليزي في أواخر القرن العشرين، فكلاهما مجتمع علماني ولكن شتان بينهما، فالأول تسوده العلمانية الجزئية، حيث الفرد فيه لم يخضع بعد للمرجعية المادية الكامنة، وأما الثاني فهو مجتمع تسود فيه العلمانية الشاملة وتسيطر عليه الواحدية المادية تماماً ثم السيولة الشاملة. وهذا هو أيضاً الفرق بين المجتمع المصري في أوائل الخمسينيات والمجتمع المصري في أواخر التسعينيات. وهو الفرق بين الخطاب العلماني في المراحل الأولى للعلمنة والخطاب العلماني في المراحل الأخيرة. وهو الفرق بين الدولة السوفيتية والدولة الأمريكية بعد إعلان الثورة (الأمريكية والبلشفية) مباشرةً والدولتان السوفيتية والأمريكية في الثمانينيات.

ولا يمكن القول بأن كل فرد يمر في حياته من خلال المتتالية العلمانية والانتقال من الجزئي إلى الكلي والشامل (فهذه عملية اجتماعية تاريخية). ومع هذا لا يتبنى الفرد النموذج السائد في مجتمعه بقضه وقضيضه، فمعظم البشر يعيشون حياتهم المتعينة مستخدمين أكثر من نموذج وأكثر من مرجعية، بعضها قد يكون متناقضاً تماماً مع البعض الآخر. فيمكن أن يعلمن الإنسان حياته الاقتصادية والسياسية بشكل كامل ويُخضعها للمرجعيات والمعايير والمنظومات العلمانية الشاملة، وفي الوقت نفسه يرفض (بشكل واع أو غير واع)، علمنة سلوكه أو حياته الشخصية بنفس الدرجة (أو لا يَجسُر على ذلك) ويرفض إخضاعها لنفس المرجعية والمعايير والمنظومات التي طَبَّقها على حياته العامة، أي أنه في حياته السياسية والاقتصادية يخضع للعلمانية الشاملة والواحدية المادية ويصبح شيئاً بين الأشياء، وفي حياته الخاصة يدور في إطار مرجعية متجاوزة ولذا فإنه يظل بشراً حر الإرادة ذا حس خُلقي قوي يعي ثنائيات المطلق والنسبي، أي يدور في إطار العلمانية الجزئية.

ومع هذا، تجب الإشارة إلى بعض الأفراد ممن يتبنون نماذج علمانية شاملة ويستخدمون ديباجات جزئية عن وعي وبدهاء مقـصود، لأن الناس ينفـرون بفطـرتهم الإنسـانية من الـعلمانية الشـاملة بسبب وحشيتها وعدميتها.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:26 AM
الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم »علمانية«

إشكالية اختلاط الحقل الدلالى لمصطلح "علمانية"والمفاهيم الكامنة وراءه
من أهم الإشكاليات التي تواجه دراسي الظواهر العلمانية أن مصطلح «علمانية» (سواء في المعجم الغربي أو العربي) مختلط الدلالة، فكل معجم يأتي بعده تعريفات متضاربة. فإذا انتقلنا إلى تعريف المفهوم الكامن فإن الأمر يزداد اختلاطاً. وفي المداخل المتبقية في هذا الباب سنتناول التعريف المعجمي لكلمة «علمانية» في العالم الغربي والعربي ثم تعريف المفهوم.

التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم الغربى
كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secularism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوربية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سَيكولوم saeculum» وتعني «العصر» أو «الجيل» أو «القرن». أما في لاتينية العصور الوسطى (التي تهمنا في سياق هذا المدخل)، فإن الكلمة تعني «العالم» أو «الدنيا» (في مقابل #########. ويوجد لفظ لاتيني آخر للإشارة إلى العالم، وهو «موندوس mundus». ولفظة «سيكولوم» مرادفة للكلمة اليونانية «آيون aeon» والتي تعني «العصر»، أما «موندوس» فهي مرادفة للفظ اليوناني «كوزموس comos» والذي يعني «الكون» (في مقابل «كيوس chaos» بمعنى «فوضى»). ومن هنا، فإن كلمة «سَيكولوم» تؤكد البُعد الزماني أما «موندوس» فتؤكد البُعد المكاني.

وقد استُخدم المصطلح سكيولار secular»»، لأول مرة، مع نهاية حرب الثلاثين عاماً (عام 1648عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية (أي الدولة العلمانية) الحديثة، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بدايةً لمولد الظاهرة العلمانية في الغـرب. وكان مـعنى المصطلح في البداية محـدود الدلالة ولا يتسـم بأي نوع من أنواع الشمول، إذ تمت الإشارة إلى «علمنة» ممتلكات الكنيسة وحسب بمعنى «نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية»، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة. وفي فرنسا، في القرن الثامن عشر، أصبحت الكلمة تعني (من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية) «المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة». أما من وجهة نظر مجموعة المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مُثُل الاستنارة والعقلانية المادية والمعروفين باسم «الفلاسفة» (فيلوسوف Philosophes) (ويشار إليهم أيضاً باسم الموسوعيين)، فإن الكلمة كانت تعني «المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة».

ساجدة لله
2010-10-23, 06:26 AM
ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب دون أن تصل إلى الشمول الكامل على يد جون هوليوك John Holyooke (1817 ـ 1906) أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث وحوَّله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي. ولم يكن جون هوليوك، لسوء الحظ، يتسم بكثير من العمق الفلسفي أو التحليلي، ولذا ساهم تعريفه في تعميق مشكلة العلمانيتين واختلاط الحقل الدلالي. وقد حاول أن يأتي بتعريف تَصوَّر أنه محايد تماماً (ليست له علاقة بمصطلحات مثل «ملحد» أو «لاأدري»). فعرَّف العلمانية بأنها "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".

والحديث عن "إصلاح حال الإنسان" يفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة ومنظومة معرفية قيمية. فهل العلمانية إذن هي هذه الرؤية الشاملة؟ إن كان الأمر كذلك، فإن هوليوك لم يعطنا ملامح هذا النموذج وهذه المنظومة، فهو لا يتصدى البتة لقضية القيمة (هل هي قيم مادية؟) أو قضية المعرفة (هل مصدرها الحواس وحسب؟). وهو يتحدث عن الإنسان دون تعريف للسمات الأساسية لما يشكل جوهر الإنسان الذي ستتم العملية الإصلاحية عليه وباسمه (هل هو إنسان طبيعي؟). وهناك الحديث عن الإصلاح "من خلال الطرق المادية" فهل يعطينا هذا مفتاحاً لطبيعة النموذج الذي سيتم تبنيه؟ أليست هذه هي العلمانية الشاملة؟ وهذا الموقف ألا يعني الرفض الكامل للإيمان، وليس عدم التصدي له وحسب، كما يدَّعي؟ فالمصطلح يحتوي على قضايا خفية كثيرة وعلى ميتافيزيقا خفية وعلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني وتبنت الطرق المادية، فكأنه تبنى النموذج الشامل للعلمانية دون أن يدرك هو نفسه ذلك، وتصور أنه سيترك الإيمان الديني وشأنه.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:26 AM
وقد تم تبسيط تعريف هوليوك للعلمانية فأصبح المصطلح يعني «فصل الدين عن الدولة»، أي فصل العقائد الدينية عن رقعة الحياة العامة، وهو تعريف أكثر جزئية من تعريف هوليوك وأشد شمولاً من تعريف الكلمة عند توقيع صلح وستفاليا. ومرجعية هوليوك التاريخية هي أوربا في القرن التاسع عشر وتعريفه للعلمانية ينبع من هذه المرجعية. ومن المعروف أن التاريخ لم يتوقف قط في العالم الغربي، فحدثت تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية أدت إلى تحولات هائلة في رقعة الحياة العامة والخاصة وكافة العلاقات الإنسانية. وأخذت هذه التحولات في التصاعُد في بداية القرن العشرين وتصاعدت حدتها في منتصف القرن. فالمؤسسة الحاكمة في الغرب لم تَعُد الدولة الصغيرة الضعيفة التي تنافسها العديد من المؤسسات الأهلية الأخرى، بل أصبحت دولة ذات أذرع طويلة وتتبعها مؤسسات أمنية عديدة. وظهر قطاع الإعلام واللذة في المجتمع، وهما قطاعان ضخمان رهيبان يصلان إلى الرجال والنساء والأطفال في كل مكان وزمان. وكل هذه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية تتدخل في أخص خصوصيات حياة الإنسان وضمن ذلك حياته الجنسية وعلاقة الآباء بأطفالهم وتصوغ صورة الإنسان لنفسه. في هذا الإطار الجديد، بأي معنى من المعاني يمكن الحديث عن العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، أي دولة نتحدث عنها؟ وما دور قطاع اللذة؟ هل لا يزال الحديث عن علمانية جزئية، أم عن شيء مغاير تماماً أكثر جذرية وشمولاً يمكن أن نطلق عليه «العلمانية الشاملة»؟

ويتضح الاختلاط بين العلمانيتين الجزئية والشاملة في التعريفات التي ترد في المعاجم اللغوية الغربية الحديثة. وقد حاول قاموس أكسفورد أن يحصر الحقل الدلالي المتسع لكلمة «علمانية»، فأورد استخدامات عديدة للكلمة لا تعنينا كثيراً، مثل «ينتمي إلى عصر أو مدة زمنية طويلة» أو «يُحتفَل به مرة كل عصر أو قرن، وفي كل فترة طويلة»، فيقال: «الألعاب والمسرحيات والعروض العلمانية» بمعنى «الألعاب والعروض التي كانت تُقام في روما القديمة مرة كل عصر (أو كل مائة وعشرين عاماً) وتستمر لمدة ثلاثة أيام وليال»، ويُقال «قصيدة علمانية» بمعنى «قصيدة تُتلى في هذه الأعياد». وفي اللغة العلمية، يُشار إلى «التغيرات العلمانية» باعتبارها التغيرات التي تحدث على فترة زمنية خلال عصور طويلة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:26 AM
وتُستخدَم كلمــة «علمــاني» أيضاً للإشــارة إلى "أعـضــاء الكـهنــوت الذين يعيــشون في الدنيا لا في عــزلة الأديرة". أو للإشارة إلى «العوام» (وهو استخدام نادر). وهذه الاستخدامات كلها ـ كما أسلفنا ـ لا علاقة لها بكلمــة «علمــانية» بالمعنـى الاصطـلاحي الحـديث للكلمة، وإن كانت كلها تتضمن فكرة الزمن والدنيا.

أما بقية الاستخدامات، فهي تشير إلى عملية التأرجح بين الجزئية والشمولية، دون أن يُسمِّيها المعجم كذلك. ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح «علمانية»:

1 ـ ينتمي للحياة الدنيا وأمورها (ويتميَّز في ذلك عن حياة الكنيسة والدين). مدني وعادي وزمني [ويُلاحَظ ترادف كلمات مثل «مدني» و «زمني» و«علماني»]. والواضح أن الكلمة تحمل هنا مدلولاً سلبياً وحسب، فهي تعني «غير كهنوتي» و«غير ديني» و«غير مقدَّس».

2 ـ وكانت الكلمة تُطبَّق على الأدب والتاريخ والفن، وخصوصاً الموسيقى، ومن ثم على الكُتَّاب والفنانين. وكانت تعني أيضاً «غير معني بخدمة الدين» و«غير مُكرَّس له» و«غير مقدَّس» و«مدنَّس» بمعنى «مباح». وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى المباني، و«المباني العلمانية» هي «المباني غير المُكرَّسة للأغراض الدينية».

3 ـ أما في مجال التعليم، فإن الكلمة تشير إلى الموضوعات غير الدينية (وأصبحت الكلمة مؤخراً تعني استبعاد تدريس المواد الدينية في المعاهد التي يُنفَق عليها من المال العام). ومن هنا، فإن تعبير «مدرسة علمانية» يكون بمعنى «مدرسة تعطي تعليماً غير ديني».

4 ـ ينتمي إلى هذا العالم الآني والمرئي تمييزاً له عن العالم الأزلي والروحي، الآتي وغير المرئي.
5 ـ يهتم بهذا العالم وحسب؛ غير روحي (استخدام نادر).

6 ـ يختص بمذهب العلمانية ويتقبله.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:27 AM
ويُلاحَظ أن 1 ـ 3 تعريفات جزئية للعلمانية. أما 4 ـ 6 فهي تعريفات تميل نحو الشمول.

ولكن حين انتقل المعجم من كلمة «سكيولار» إلى كلمة «سكيولاريزم secularism»، أي «العلمانية» فقد عرًَّفها تعريفاً شاملاً، باعتبارها «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لابد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة [الدنيا] واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى [الآخرة]». والعلماني (سكيولاريست secularist) هو المؤمن بذلك. والعلمنة (سكيولارايزيشن secularization) هي تحويل المؤسسات الكنسية والدينية وممتلكات الكنيسة إلى ملكية علمانية وإلى خدمة الأمور الزمنية، وتعني كذلك صبغ الفنون والدراسات بصبغة علمانية غير مقدَّسة، ووضع الأخلاق على أسس غير أخلاقية (أي على أسس مادية علمية) وحصر التعليم في موضوعات علمانية.

أما في اللغة الفرنسية، فهناك كلمة «لاييك laique». وقد انتقلت الكلمة إلى الإنجليزية في كلمة «ليك laic» بمعنى «خاصة بجمهور المؤمنين» (تمييزاً لهم عن الكهنوت)، ومنها كلمة «لييتي laity» وهم الكافة (باستثناء رجال الدين)، وكلمة «لييسيزم laicism» بمعنى النظام العلماني، أي النظام السياسي المتميِّز بإقصاء النفوذ الكهنوتي عن الدولة (التعريف الجزئي). واشتق كذلك فعل «لييسايز laicize» بمعنى أن ينزع الصبغة الكهنوتية أو يُعلمن (وخصوصاً المدارس). و«لييسايزيشن laicization» معناها نَقْل كثير من وظائف رجال الدين والكهنوت، كالتعليم والقضاء والخدمات الاجتماعية، إلى خبراء يتم تدريبهم تدريباً زمنياً لا علاقة له بالعقائد الدينية التي تستند إلى الإيمان بما وراء الطبيعة، بحيث تصبح مهمة رجال الدين مقصورة على الأعمال الدينية (تعريف شامل). والفعل الإنجليزي المشتق عن الفرنسية يحمل بصمات أصوله الفرنسية والتجربة الفرنسية في العلمنة (المرتبطة بالثورة الفرنسية) التي أخذت شكلاًّ حاداً وقاطعاًَ. فمؤسسة الكنيسة كانت قوية في المجتمع الفرنسي القديم، وكانت امتيازات النبلاء واضحة محدَّدة، كما كان هناك تداخل شبه كامل بين طبقة النبلاء ورجال الدين (وخصوصاً ذوي المراتب الرفيعة)، ولذا كان رد فعل الثوار عنيفاً ومنهجياً يأخذ شكل رفض النظام القديم (متمثلاً في الحكومة الملكية المطلقة) ونظام الطبقات السائد ومؤسسة الكنيسة وكل الرموز السياسية والدينية القائمة. ووصل الرفض إلى حد ذبح النبلاء وكثير من أعضاء طبقة الكهنوت، وإلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد تُعبَد فيها ربة العقل. كما أنهم وضعوا سياسة منهجية صريحة تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في التعليم أو القانون.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:27 AM
وهناك كلمة أخرى وردت في معاجم اللغة الإنجليزية وهي «دي كريستيانايز dechristianize» أي «ينزع الصبغة المسيحية عن المجتمع» وهو مصطلح محدَّد الدلالة لا يصلح إلا للمجتمعات التي تسود فيها المسيحية.

ويُستخدَم مصطلح «علماني» أحياناً بمعنى «ملحد». ففي كتابات بيتر جاي Peter Gay، أحد أهم مؤرخي حركة الاستنارة في الغرب، نجد هذا الترادف. وقد كتب كتاباً بعنوان يـهودي بلا إله: فـرويد والإلحاد وتأسـيس التحـليل النفسي A Godless Jew: Freud, Atheism, and the Making of Psychoanalysis حيث نجـد هـذا الترادف واضحاً. فالتحليل النفسي يوصف بأنه "علم علماني، لا علاقة له بالدين بل معاد له يهدف إلى تحطيمه" وهكذا.

ويستخدم رورتي كلمة «علماني» بمعنى "محصور بنطاق الزمان والمكان" ثم يبيِّن التضمينات الفلسفية للمصطلح، بأنه نزع القداسة عن كل شيء.

التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم العربى والعالم الثالث
منذ ما يُسمَّى «عصر النهضة» في تاريخ الفكر العربي ومعظم تعريفاتنا للظواهر الإنسانية تستند إلى تعريفات الغرب وتجاربه. فنحن نستورد كثيراً من مصطلحاتنا من الغرب، وهو ما يُبيِّن إيماننا بمركزية الغرب وعالميته. وقد استوردنا مصطلح «علمانية» فيما استوردنا، فكان من أكثر المصطلحات غموضاً وإبهاماً، رغم شيوعه في الآونة الأخيرة. ويعود إبهامه للأسباب التالية:

1 ـ مصطلح «علمانية» منقول من المعجم الأجنبي، ومن التشكيل الحضاري الغربي، تتحدَّد دلالته الحقيقية بالإشارة إلى هذا المعجم وهذا التشكيل الحضاري ويكتسب مضمونه الحقيقي منهما.
2 ـ رغم محاولتنا الجاهدة الدائبة في اللحاق بركب الغرب ومواكبته، فإن المصطلحات التي نستوردها (مثل: «الاستنارة» ـ «التقدم» ـ «التحديث» ـ «العقل») تشير إلى معنى الكلمات كما وردت في المعجم الغربي (اللغوي والحضاري) حتى منتصف أو أواخر القرن التاسع عشر ولم يتسع مجالها الدلالي كما حدث في الغرب. ولذا، فإن مصطلحاتنا بريئة تماماً من كل المشاكل التي ظهرت بعد تحقق المتتالية الترشيدية والتحديثية والعلمانية الغربية، فهي بسـيطة أحـادية البُعد تشع تـفاؤلاً لا أساس له في الواقع. واصطلاح «علمانية» لا يشكل أي اسثناء لهذه القاعـدة، فنحـن نتحدث عنها على طريقة فولتير ولوك وكوندورسيه وغيرهم من الفلاسفة التبسيطيين الاختزاليين.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:27 AM
3 ـ تُوجَد داخل هذا التشكيل الحضاري عدة تشكيلات فرعية: فهناك التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي) والتشكيل الحضاري الإنجليزي وهناك التشكيل الألماني (البروتستانتي) والتشكيل الروسي (الأرثوذكسي)، وقد عرَّف كل تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما من خلال تجربته الخاصة.

4 ـ خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة، وتزايدت فيها معدلات العلمنة واختلفت المواقف من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف.

رغم كل هذا استوردنا مصطلح «علمانية» ولصقناه في معجمنا بإبهامه ولا تحدده وتأرجحه بين الجزئية والشمول. ومع انتقال المصطلح إلى العالم العربي الإسلامي، ازداد المجال الدلالي المضطرب للكلمة اضطراباً واختلالاً للأسباب التالية:

أ ) حينما ينتقل مصطلح مثل «علمانية» من معجم حضاري إلى معجم حضاري آخر وتتم «ترجمة» المصطلح، فإنه يظل يحمل آثاراً قوية من سياقه الحضاري السابق الذي يظل مرجعية صامتة له.

ب) تجربة العرب والمسلمين مع متتالية العلمنة مختلفة، فعمليات العلمنة لم تنبع في واقعهم التاريخي والاجتماعي (رغم وجود عناصر علمنة مختلفة فيه) وإنما أتى بها الاستعمار الغربي.

وقد اختُزلت مناقشة المصطلح إلى طريقة ترجمته، ولم تَعُد القضية هي وصف الظاهرة العلمانية وتحليلها وتسميتها حسبما نراها نحن (من خلال تجربتنا وسعادتنا أو شقائنا بها) بل انصب الجهد الفكري والبحثي على مناقشة أحسن الترجمات لكلمة «علمانية» وأقربها إلى المعجم الغربي وأكثرها دقة. وهكذا سقطنا في الموضوعية المتلقية.

وتُوجَد في المعجم العربي ترجمات مختلفة لكلمة «سكيولار» و«لائيك»:

ساجدة لله
2010-10-23, 06:27 AM
1 ـ «العلْمانية» (بكسر العين) نسبة إلى «العلْم».

2 ـ «العَلْمانية» (بفتح العين) نسبة إلى «العَلْم» بمعنى «العالم».

3 ـ «الدنيوية» أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها.

4 ـ «الزمنية» بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأي ماورائيات.

5 ـ وتُستخدَم أحياناً كلمة «لائيك» نفسها دون تغيير.

والتأرجح بين الجزئية والشمول يُوجَد بشكل أكثر حدة في العالم الثالث، فهناك حديث عن «علمانية وسطية» (وإن كان هناك أيضاً في الغرب حديث عن «علمانية مسيحية»، أي عن المسيحية التي تؤدي إلى العلمانية).

وقد لوحظ، في العالم الثالث، أن ثمة تداخلاً بين مصطلح «علمنة» ومصطلحين آخرين:

ـ «مودرناينز modernize» أي «يُحدِّث». والمصطلح يعني إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير التقليدية وإخضاع كل شيء للمعايير العقلية العلمية المادية التي تتفق مع معايير الحداثة (برؤيتها للإنسان والكون)، وهذا هو أيضاً الترشيد.
ـ «ويسترنايز westernize» أي «يُغرِّب»، بمعنى «يفرض أنماط وأساليب الحياة الغربية». وحيث إن المعايير السائدة في الحضارة الغربية الحديثة هي المعايير العلمانية، وحيث إن المجتمعات الغربية الحديثة هي المجتمعات الأولى التي طبقت هذه المعايير وتصاعدت فيها معدلات العلمنة حتى سادت المعايير العلمانية بشكل كبير حتى تكاد تقترب هذه المجتمعات من الحالة النماذجية التي يقال لها «مجتمع علماني»، لكل هذا، ثمة تداخل كبير يقترب من حد الترادف بين هذا المصطلح وسابقه. وفي العالم الثالث، تؤدي العلمنة في معظم الأحيان إلى التغريب.

ولا تَسلَم هذه المصطلحات هي الأخرى من عملية التأرجح المشار إليها. وهناك بطبيعة الحال من يرون أن ثمة ترادفاً كاملاً بين الرؤية المادية من ناحية والرؤية العلمانية من ناحية أخرى، ومن ثم فكلمة «علماني» في تصورهم مرادفة لكلمة «ملحد» أو «معاد للدين والأخلاق» أو حتى «إباحي».