المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 [53] 54

ساجدة لله
2010-10-24, 03:39 AM
4 ـ الوطن القومي لأقباط مصر هو مصر وليس لهم وطن قومي آخر حقيقي أو وهمي. والأماكن المقدَّسة المسيحية تقع داخل الدولة الإسلامية في فلسطين التي تربطها علاقة خاصة بمصر والتي كانت تابعة إدارياً لها، وهي أماكن مقدَّسة وحسب وليست المكان الذي سيعود له الأقباط في آخر الأيام كما هو الحال مع اليهود. والكنيسة القبطية كنيسة مصرية لها هويتها الدينية والحضارية المستقلة عن كل الكنائس الأخرى. وقد ساهم ذلك ولا شك في تعميق ولاء الأقباط لمصر وتَجذُّرهم في أرضها وتاريخها (أي في المكان والزمان).

5 ـ لم تتكون دياسبورا قبطية خارج مصر تحاول تجنيد أعضاء الأقلية القبطية وتخلق بينهم لوبي يعمل لصالحها ويُولِّد الرغبة في الخروج والهجرة (الحركية)، هـذا على عكـس اليهود حيث تُوجَد دياســبورا يهودية ضخمة في العالم. ويُلاحَظ، مع نهاية القرن التاسع عشر، أن أعداداً كبيرة من اليهود الأشكناز هاجرت إلى مصر فصبغت أعضاء الجماعة اليهودية فيها بالصبغة الغربية، وولَّدت لديهم قابلية للانخراط في الحضارة الغربية.

6 ـ لعل قضية العدد هنا قضية مهمة، فبينما كان عدد يهود مصر صغيراً، كان عدد أقباطها كبيراً، فهم يُكوِّنون نسبة مئوية لها وزنها. وهذا يعني أن أعدادهم كافية لأن يُمثَّلوا في كل مستويات الهرم الإنتاجي وفي كل المجالات الثقافية. كما يعني أيضاً أنهم في احتكاك يومي فعلي بمعظم أعضاء الأغلبية، الأمر الذي جعل من العسير فرض صورة إدراكية عنصرية بسيطة عليهم أو عزلهم وجدانياً عن أعضاء الأغلبية. وأخيراً، أدَّى العدد الكبير إلى إفشال الخطة الاستعمارية الرامية إلى تغريب الأقباط عن طريق منحهم الامتيازات الأجنبية، وعن طريق فتح المدارس الأجنبية أمامهم وإكسابهم الخبرات اللازمة للانخراط في القطاع الاقتصادي الغربي الجديد. فإذا كانت هناك نسبة ما من أقباط مصر قد استفادت من هذا الوضع، فإن السواد الأعظم من الفلاحين وأعضاء الطبقة المتوسطة المصرية من الأقباط ظلوا بمنأى عنه لا يتمتعون بالمزايا ولا يعانون من الاقتلاع، وظلوا داخل التشكيل الحضاري المصري العربي الإسلامي "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".

7 ـ لكل هذه الأسباب، قاوم الأقباط حملات الاستعمار الرامية إلى فصلهم عن مجتمعاتهم العربية الإسلامية (ومن ذلك الحملات التبشيرية المسيحية التي حاولت إلحاقهم بالمسيحية الأوربية، وخصوصاً البروتستانتية، وفصلهم عن تراثهم الديني). ولذا، فقد ساهم الأقباط في الثورات القومية المختلفة وظهر من بينهم مفكرون يبدعون من خلال المعجم الحضاري العربي الإسلامي ويثرونه، كما ساهموا في الهرم الإنتاجي وأحرزوا التقدم مع مجتمعهم وتخلفوا معه وانتصروا وانكسروا بانتصاره وانكساره. ولعل موقف الكنيسة القبطية في مصر من الصراع العربي الإسرائيلي تعبير عن هذه الظاهرة في المجال السياسي.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:40 AM
ولا يختلف موقف المسيحيين العرب كثيراً عن موقف أقباط مصر، فهم أيضاً مواطنون أصليون لم يُستجلَبوا من الخارج وليس لهم وطن قومي آخر ولا يحنون إلى صهيون بعيدة أو في آخر الزمان. فعلى سبيل المثال، كانت قبائل الغساسنة في الشام قبل الفتح الإسلامي، تتحدث العربية الفصحى وكان لها قبل الفتح الإسلامي وبعده شعراؤها وأدباؤها الذين ساهموا في هذا الفتح وساندوه. وقد استمرت هذه القبائل في نمط حياتها، ولم ينقطع الإبداع الحضاري لأبنائها قط لأن الحضارة الإسلامية لم تفرض عليهم وظيفة متميِّزة أو مشينة ولم تحوسلهم بأي شكل كان. ولا شك في أن مفهوم أهل الذمة حدَّد وضعهم منذ البداية وحدَّد أن لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات إلا فريضة الجهاد باعتبارها فريضة دينية، وقد أُعفوا منها نظير البدل العسكري أو الجزية. والنظام القيمي عند المسيحيين العرب المُستمَد من الدين المسيحي، لا يعاني من أية ازدواجية، ويُلاحَظ أن معظم المسيحيين العرب من الأرثوذكس وأقلية منهم كاثوليك، كما أن إرساليات التبشير البروتستانتية لم تنجح كثيراً في تجنيد أعداد كبيرة منهم، وكل هذا يدل على أن هويتهم المسيحية العربية قوية. والكثافة السكانية للمسيحيين العرب كبيرة، ولذا كان بوسعهم أن ُيمثَّلوا في كل درجات الهرم الإنتاجي، كما أنهم لا يعيشون محميين ومعزولين داخل جيتو مقصور عليهم وإنما يعيشون مع أعضاء الأغلبية يحتكون بهم في كل المجالات ويعيشون معهم في السراء والضراء وبالقدر الإنساني المعقول من الحب والكره.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:40 AM
الدولة الوظيفية
يمكن إعادة إنتاج نمط الجماعة الوظيفية على مستوى الدولة في أشكال مختلفة:

1 ـ يمكن اعتبار الدول الاستيطانية دولاً وظيفية يسكنها عنصر سكاني تم نقله من وطنه الأصلي ليقوم على خدمة مصالح الدولة الإمبريالية الراعية التي أشرفت على عملية النقل السكاني وساهمت في عملية قمع السكان الأصليين (عن طريق الإبادة أو الطرد أو الإرهاب) وضمنت له الاستمرار والبقاء. ويمكن النظر إلى دويلات الفرنجة في الشام وفلسطين (الإمارات الصليبية) باعتبارها مثلاً جيداً على ذلك. وفي العصر الحديث يمكن الإشارة إلى الجيب الفرنسي الأبيض في الجزائر وجنوب إفريقيا، وبطبيعة الحال الدولة الصهيونية الوظيفية.

2 ـ يمكن تحويل دولة صغيرة ليست بالضرورة استيطانية، إلى دولة وظيفية. وتتم عملية التحويل هذه عن طريق عملية رشوة لشعب هذه الدولة، بحيث يرتفع مستوى معيشته ويتزايد اعتماده على قوة خارجية تضمن بقاءه واستمراره بحيث لا يمكنه أن يحقق البقاء (كدولة مستقلة) دون استمرار الدعم الخارجي.

3 ـ يمكن تحويل اتجاه دولة ما بحيث تنحو منحى وظيفياً عن طريق تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار (الغربي). وتنظر للمجتمع الذي تنتمي إليه نظرة تعاقدية باردة فتنعزل عنه وتشعر بالغربة ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي بالمركز الإمبريالي.

السمات الأساسية للجماعات الوظيفية
تتسم الجماعات الوظيفية بعدة سمات أساسية قمنا في عرضنا لها بفصل كل سمة عن الأخرى، وهذا فصل تعسفي ذو طابع تحليلي. فكل سمة من السمات مرتبطة بالأخرى، ومن هنا كان التداخل فيما بينها. وينبغي ملاحظة أن ما نقدمه هنا هو بمنزلة نموذج تحليلي وليس وصفاً لواقع تاريخي أو تجريبي. ومن ثم، قد تتحقق بعض أو معظم هذه السـمات في كـثير من الجـماعات الوظيفية، ولكنها لا تتحقق كلها إلا في لحظات نماذجية نادرة.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:42 AM
أ ) العزلة:

يحتفظ المجتمع المضيف بمسافة بينه وبين الجماعة الوظيفية، وذلك بأن يقوم بعزل أعضائها. فحينما يستجلب المجتمع المضيف عنصراً بشرياً حركياً محايداً، فإنه يتعامل معه بشكل رشيد محسوب دون عاطفة أو مودة أو تراحم، وهو لا يلتزم أخلاقياً تجاهه، بل يقوم بعزله لحماية نفسه من هذا العنصر الذي تمت حوسلته تماماً وفَقَد إنسانتيه وأصبح مادة محايدة لا قداسة لها ولا حرمة. ويعيش أعضاء الجماعة الوظيفية في جيتو خاص بهم، يرتدون أزياء مختلفة عن أزياء المجتمع المضيف، ويتحدثون لغة مختلفة عن لغته، بل يدينون في كثير من الأحيان بدين مختلف. والعزلة، في حالة الجماعة الوظيفية، شكل من أشكال الترشيد، ولكنه ترشيد ينصرف فقط إلى علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع المضيف إذ يحتفظ أعضاء المجتمع بعلاقات المودة والتراحم والإحساس بالقداسة فيما بينهم، تماماً كما يحتفظ أعضاء الجماعة الوظيفية فيما بينهم بالتراحم بل التلاحم والإحساس بقداستهم. أما العلاقة بين الجماعة والمجتمع، فهى ـ كما أسلفنا ـ علاقة موضوعية عقلانية مجردة رشيدة تستند إلى حسابات المكسب والخسارة والعرض والطلب. والهدف من عملية العزل هنا أن تظل هذه العلاقات غير الإنسانية الرشيدة الأحادية على هامش المجتمع لا في داخله، وذلك حتى لا يفقد المجتمع تَراحُمه وتلاحمه وقداسته، كما أنه يضمن أن يظل العنصر الوظيفي غريباً مميَّزاً بغير قاعدة جماهيرية أو أساس للقوة.

وتأخذ العزلة أشكالاً مختلفة، فهى قد تكون مكانية فعلية كأن يعيش أعضاء الجماعة الوظيفية في جيتو خاص بهم، وقد تكون رمزية فيرتدون أزياء خاصة بهم، أو تكون لغوية فيتحدثون لغة أو لهجة أو رطانة مختلفة عن بقية أعضاء المجتمـع. وقد يتم العزل عن طريق الخصـي (وفي العصـر الحديث عن طريق الدخل المرتفع والتوجه الحضاري المختلف). وقد تتم العزلة على جميع هذه المستويات وغيرها. ولكن، مهما اختلفت أشكال العزلة، فإن الوظيفة التي يضطلع بها أعضـاء الجمـاعة الوظيفـية يتـم عزلها عن بقية الوظائف الاجتماعية والسياسية والإنسانية الأخرى بحيث لا تصبح لهم علاقة حية بالطبقات الأخرى (العلىا أو الدنيا)، فهم أداة وحسب.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:43 AM
ب) الغربة:

يقابل عملية العزل البرانية من قبَل المجتمع إحساس جواني عميق بالغربة لدى عضو الجماعة الوظيفية، فهو عادةً ما يشعر بأنه ينتمي إلى "وطن أصلي" يشعر بالحنين إليه ويصبح موضع عاطفته المشبوبة وبؤرة عواطفه، كما أن ولاءه الحقيقي يتجه نحو وظيفته وجماعته الوظيفية. بل إن أعضاء الجماعة الوظيفية يتمسكون برموز العزلة المفروضة عليهم ويستبطنونها تماماً ويتوحدون بها حتى تصبح من علامات تميُّزهم عن الأغلبية. ومما يُعمِّق إحساس عضو الجماعة الوظيفية بالغربة نحو مجتمع الأغلبية أن هذا المجتمع يُحوسله تماماً وينبذه.

ويؤدي تزايد العزلة والغربة إلى تَزايُد اعتماد عضو الجماعة الوظيفية على جماعته ليضمن بقاءه ووجوده واستمراره وهويته، فهو غريب في محيط معاد له يَصعُب عليه الاندماج فيه. فالجماعة، إذن، تزود أعضاءها (من خلال شبكة القرابة القوية) بالأمن والأمان. كما أن هذه الشبكة تُسهِّل عملية تجنيد الأعضاء الجدد من الوطن الأصلي أو غـيره من المصـادر، وتُدرِّبهم وتُورِّثهم الخبرة وأسرار المهنة. وفي حالة الجماعة الوظيفية المالية الوسيطة، تضمن الشبكة سرعة نقل البضائع، كما قامت في الماضي بتنظيم عملية الائتمان والقروض عبر مسافات طويلة في وقت لم تكن توجد فيه مصارف أو وسائل اتصال. ومثل هذه العمليات المُركَّبة، التي تقوم بها الشركات متعددة القوميات والمصارف الدولية في الوقت الحالي، كان من المستحيل القيام بها إلا بهذه الطريقة قبل ظهور البنية التحتية للعصر الحديث. كما أن العزلة الوظيفية والسياسية تؤدي إلى زيادة الرغبة في مراكمة الثروة، كمصدر من مصادر القوة وبديل لها، وتحسين الخبرة والأداء ليظل المجتمع المضيف بحاجة إلى الجماعة الوظيفية.

وحيث إن الجماعة الوظيفية أساسية لبقاء العضو، كان من اليسير على قيادة الجماعة أن تقوم بعملية الضبط الاجتماعي، ومراقبة سلوك الأعضاء، وإنزال أشد العقوبات بالمخالفين لمعايير الجماعة كالمقاطعة والحرمان والطرد. ومما يُسهِّل عملية الضبط هذه أن الرقابة عادةً ما تتم من خلال شبكة القرابة، فالجماعة الوظيفية مُكوَّنة أساساً من الأقارب. ويُقال إن بعض الشباب اليهودي في دمشق، في القرن التاسع عشر، حاولوا أن يَتنصَّروا، لكنهم لم يجدوا عملاً لأن الكفاءات التي كانت عندهم كانت تؤهلهم للعمل في مهن محددة (مثل الصاغة) كانت تحتكرها الجماعة اليهودية الوظيفية.

ولعل عزلة الجماعة الوظيفية وبقاءها واستمرارها من خلال عملية الضبط الاجتماعي الصارمة هي التي تُفسِّر النفوذ الذي يتمتع به أثرياء هذه الجماعات ونخبتها الثقافية والقائدة، فهم يشكلون الشريحة التي تقوم بعملية الضبط هذه، وهم المسئولون عن ضمان بقاء الجماعة واستمرار أدائها بكفاءة.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:43 AM
وعملية العزل والإحساس بالغربة قد تبدأ بشكل واع أو بشكل غير واع، لكن آليات العزل تعمل بقوتها الذاتية بعد حين، ذلك أن أعضاء الجماعة الوظيفية يشكلون شبكة عائلية أو قَبَلية مُحكَمة تهيمن بالتدريج على مجموعة من الوظائف دون غيرها وتستبعد منها كل العناصر البشرية الأخرى، وافدة كانت أم محلية. وتبدأ الجماعة في تَوارُث الخبرات وأسرار المهنة ومراكمتها وتحسينها، وتزداد كفاءة أعضائها في أداء وظائفهم فيزداد تَركُّزهم ومن ثم تزداد عزلتهم وغربتهم. كما يتزايد تَميُّز أسلوب حياتهم الخاص، بل إنهم يكتسبون سمات إنسانية مرتبطة تماماً بوظيفتهم. فهم، مثلاً، بسبب عزلتهم وغربتهم وعدم إحساسهم بالطمأنينة، يحاولون تعويض هذا عن طريق مراكمة رأس المال فيعملون كثيراً ويُقتِّرون على أنفسهم ولا يرحمون أنفسهم وكذلك لا يرحمون الآخرين. ويؤدي هذا إلى تَزايُد إنغلاقهم نظراً لتجانسهم الإثني والحضاري واللغوي، وخصوصاً أن وظيفتهم تتطـلب الانغـلاق، إذ أن هذا يضـمن المحـافظة على الخبرات وأسرار المهنة وشبكة الاتصالات والعلاقات. وهكذا يقاوم أعضاء الجماعة الوظيفية كل عوامل الاندماج مع أعضاء المجتمع المضيف، فلا يسكنون بينهم ولا يتزاوجون منهم، ويبذلون قصارى جهدهم في المحافظة على عزلتهم. وعلى هذا النحو، فإن ما بدأ كعملية قسر خارجية يتم استبطانه ويتحول إلى رغبة داخلية وَمَثل أعلى، ومن ثم تصبح العزلة، التي كانت مفروضة عليهم في بادئ الأمر، هي مطلبهم الأساسي.

ونظراً لعزلة أعضاء الجماعة الوظيفية وغربتهم، فهم يكونون في المجتمع وليسوا منه، لا يلعبون دوراً أساسياً في المجتممع. وإن لعبوا مثل هذا الدور، فهم يظلون خارج النظام السياسي: فيهيمنون عليه بأن يصبحوا نخبته الحاكمة التي تحتفظ بمسافة بينها وبين الجماهير، أو يقوموا بالتدخل لصالح فئة ما على حساب فئة أخرى. ويظهر عدم انتماء أعضاء الجماعات الوظيفية سياسياً في شكل ظاهرتين مختلفتين متناقضتين ظاهرياً. فأعضاء الجماعة الوظيفية عادةً ما يُظهرون عدم اكتراث بسياسات البلد الذي يعيشون فيه أو بمصيره. ولكنهم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، عادةً ما تكون لديهم قابلية غير عادية لتَبَنِّي الأيديولوجيات الثورية الطوباوية الأممية (التروتسكية ـ التطرف الشعبوي... إلخ) فهي أيديولوجيات تُعبِّر عن عدم اكتراث بالوضع السياسي المُركَّب المُتعيِّن للوطن وللمجتمع وعن عدم اهتمام بمصيره المحدد، فهو اهتمام بمطلقات لا تاريخية مثل الإنسان الأممي ومستقبل البشرية جـمعاء. ولذا، نجد أن أعـضاء الجماعات الوظـيفية، حـينما ينضمون لإحدى الجماعات الثورية، يكونون عادةً من المتطرفين المدافعين عن النقاء الثوري والحلول الجذرية المتطرفة، أي أنهم في عدم اكتراثهم بالسياسة وفي اشتغالهم بها ينتمون إلى نموذج أحادي اختزالي نُقِّي تماماً من عناصر الزمان والمكان ليصبح نموذجاً «طاهراً نقياً».

ساجدة لله
2010-10-24, 03:43 AM
ومن المهم أن نلاحظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية عرضة للإحساس بالتغير بشكل جذري أكثر من أية جماعة أخرى. ويعود هذا إلى علاقة أعضاء الجماعة الوظيفية بالبناء الطبقي للمجتمع، فكل أعضاء المجتمع يتحركون إما إلى أعلى أو إلى أسفل البناء الطبقي والنظام الاجتماعي. أما أعضاء الجماعة الوظيفية، فإن وظائفهم مُحدَّدة وثابتة، والوظائف الأخرى مُوصَدة دونهم (إما لعدم خبرتهم بها، أو لأن المجتمع لا يريد أن يوكلها إلى عنصر غريب). والحراك إلى أعلى أو إلى أسفل لا ينطبق علىهم، فبابه مُوصَد دونهم أيضاً لأنهم ليسوا جزءاً من الكتلة الاجتماعية أو السياسية. ولذا، يصبح الحراك داخل المجتمع أمراً مستحيلاً، فيتم الحراك عن طريق الخروج من المجتمع والدخول إلى مجتمع آخر، ومن هنا تكون هجرتهم الدائمة. وهناك، بطبيعة الحال، إمكانية التحرك الأفقي من مسام المجتمع إلى صلبه، ولكن الجماعة الوظيفية تفقد هنا وظيفتها وبالتالي هويتها. كما أن هناك الإبادة؛ وهي حل جاهز للجماعة الوظيفية التي فقدت وظيفتها ولا يمكن استيعاب أفرادها.

جـ) العجز والارتباط بالنخبة الحاكمة:

تؤدي العزلة إلى ارتباط أعضاء الجماعة الوظيفية ارتباطاً وثيقاً بأعضاء النخبة الحاكمة (كما هو الحال مع المرتزقة والمرابين)، فهي التي استجلبتهم في المقام الأول، وهي التي عزلتهم حتى تضمن أن يظلوا بدون قاعدة جماهيرية أو أساس للقوة (في حالة خوف دائم من الجماهير)، وهي التي حولتهم إلى أداة استغلال في يدها، بصورة واضحة مباشرة، وهم عادةً ما يُوجَدون على مقربة منها في العاصمة أو مركز السلطة. ولكنها هي أيضاً التي تضمن بقاءهم واستمرارهم وتمنحهم الامتيازات. والطبقة الحاكمة تُؤثرهم على غيرهم بسبب عدم وجود قاعدة جماهيرية لهم، ومن ثم فإن ما أنجزوه من خدمات للطبقة الحاكمة سوف يقبضون أجرهم عنه وحسب، ولن يكون بمقدورهم ترجمة قوتهم المتزايدة إلى المشاركة في السلطة، أي أنهم يعيشون في حالة عجز كاملة.

ولكن علاقة أعضاء الجماعة الوظيفية بالنخبة الحاكمة ليست علاقة عضوية وإنما هي علاقة نفعية، شأنها شأن مجمل علاقتها بالمجتمع المضيف. ولذا، فحينما يتلاشى السبب النفعي وتنتفي حاجة النخبة الحاكمة إلى الجماعة الوظيفية، فإنها تتخلى عنها ويتم طرد أعضائها أو إبادتهم أو تركهم للجماهير كبش فداء. ومما يُسهِّل ذلك أن الجماعات الوظيفية ليست ذات قاعدة جماهيرية. ويمكن أن تختفي الجماعة الوظيفية بطريقة سلمية من خلال الاندماج والانصهار.

ويتركز أعضاء الجماعة الوظيفية في وظائف معيَّنة وفي قطاعات بعينها وهي في العادة وظائف في قمة الهرم الإنتاجي تتطلب خبرة خاصة لا يمتلكها أعضاء مجتمع الأغلبية إذ يتطلب أداؤها استخدام أدوات خاصة بطريقة خـاصة أو نظماً إدارية متقدمـة غير مألوفة لأعضاء المجتمع. ولهذا يحقق أعضاء الجماعة الوظيفية بروزاً غير عادي، دون أن تكون لديهم قوة حقيقية لبُعدهم عن قاعدة الهرم الإنتاجي ولأنهم غير مُمثَّلين في كل مستوياته ومجالاته ولانفصالهم عن الجماهير ـ كما أسلفنا. كل هذا يجعلهم محط السخط الشعبي، وخصوصاً أن كثيراً من الوظائف التي يتركزون فيها ذات طابع استغلالي أو قمعي. كما أن سماتهم الخاصة وأسلوب حياتهم المميَّز يؤدي إلى أن ينسج الوجدان الشعبي الأساطير من حولهم: فهم أقوياء جداً أو ضعفاء جداً، وهم شرهون أو متقشفون جداً، ومسرفون ومُقتِّرون جداً، وهم كذا وكذا بطبيعتهم، وبعد قليل يسود الاعتقاد بأن طبيعتهم البشرية مختلفة عن طبيعة بقية البشر. وهذا الموقف إن هو إلا الثمرة المتعينة لعملية التجريد المبدئية لأعضاء الجماعات الوظيفية. ويبدو أن سمات الجماعة الوظيفية تفرض نفسها فرضاً على أعضاء الجماعة وتستوعبهم تماماً. فالباكستانيون في بلادهم أهل كرم ومروءة، ولكن يُلاحَظ أن المهاجرين الباكستانيين إلى إنجلترا قد فقدوا كثيراً من صفاتهم واكتسبوا الطبيعة الوظيفية الجديدة. والصينيون غير مشهورين بالبخل في بلادهم، ولكنهم حينما تحوَّلوا إلى جماعة وظيفية (في جنوب شرق آسيا) أصبحوا مشهورين بالتقتير على النفس والحرص البالغ والإقبال على مراكمة رأس المال.

ولكل ما سبق يُلاحَظ أنه إذا اندلعت ثورة شعبية، بسبب تَزايُد التوترات والأحقاد، فإنه يكون من السهل على الجماهير الغاضبة التعرف على أعضاء الجماعة الوظيفة، فهم مختلفون في ردائهم ولغتهم وطعامهم ومكان إقامتهم وعزلتهم. ومن ثم فإنهم يسقطون ضحية سهلة لمثل هذه الثورات.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:43 AM
3 ـ الانفصال عن المكان والزمان والإحساس بالهوية (الوهمية(

عادةً ما ينتمي أعضاء الجماعات الوظيفية إلى "وطن أصلي". وهذا الوطن الأصلي يمكن أن يكون بلداً فعلياً قائماً كما هو الحال مع الصينيين في جنوب شرقي آسيا والهنود في أفريقيا وانجلترا وغيرها من البلدان. وأحـياناً يكون أعضاء الجـماعة الوظـيفية من أصل اخـتفى كوحــدة سياسية مستقلة (وسيعودون إليه في آخر الزمان)، كما هو الحال مع اليهود والزرادشتيين. وكثيراً ما يصبح الوطن الأصلي هو الجماعة العرقية أو الإثنية أو العائلية التي ينتمي إليها عضو الجماعة الوظيفية. وسواء أكان الوطن الأصلي وطناً موجوداً فعلاً أم وطناً مختفياً وغير قائم أم عائلة أم قبيلة، فإن هذا الوطن الأصلي يصبح البؤرة التي تتركز فيها عواطفهم الإنسانية الجياشة ويتجه نحوها ولاؤهم، ويصبح النقطة المرجعية الصامتة، فيفكرون في أنفسهم وفي الآخرين وفي واقعهم من خلاله. وقد يتحدثون عن العودة إليه إذا كان الوطن موجوداً فعلاً، ولكنهم عادةً لا يفعلون، إذ أن الولاء الحقيقي والفعلي لعضو الجماعة الوظيفية يتجه إلى وظيفته وجماعته الوظيفية، فهي ليست وطنه الأصلي وإنما وطنه الفعلي. وهكذا تتسرب العواطف الإنسانية لعضو الجماعة عبر قنوات تصب بعيداً عن المجتمع المضيف إما خارجه تماماً (في الوطن الأصلي) أو نحو جماعته الوظيفية، مما يُضعف أواصر الصلة بالوطن المضيف ويزيد عدم الانتماء له ويُعمِّق الحياد تجاهه ويضمن غربة أعضاء الجماعة الوظيفية تجاه مجتمع الأغلبية فيعيشون في المجتمع (في مسامه أو في هامشه) وهم يشعرون بأنهم شعب مقدَّس منفيّ.

ولكن العزلة والغربة تعطي عضو الجماعة الوظيفية إحساساً عميقاً بأنه ذو هوية مستقلة خاصة مصدرها علامات العزل المفروضة عليه التي استبطنها هو وتبناها وأصبحت جزءاً من كيانه، فهي مثل شعائر الطهارة التي تؤدي إلى عزل الطاهرين عن المدنسين. وقد يتعمق الإحساس بالتميُّز إلى أن يصل إلى مُركَّب الشعب المختار صاحب الرسالة. ورغم هذا الإحساس العميق بالتميُّز، فإن أعضاء الجماعة الوظيفية يستمدون خطابهم الحضاري في واقع الأمر من المجتمع المضيف، فقد عاشوا في كنفه سنوات طويلة، كما أن خطابهم الحضاري الأصلي قد اختفى ولم يبق منه شيء سوى عادات ورموز سطحية. ولذا، فإن قشرة الهوية الصلبة قد تكون غريبة ومتميِّزة، ولكن جوهرها الكامن ينتمي إلى المجتمع المضيف. وثنائية الظاهر والباطن هذه أساسية حتى يتسنى لعضو الجماعة الوظيفية أن يلعب دوره الوظيفي، وحتى يكون في المجتمع دون أن يكون منه، يتعامل مع أعضاء المجتمع المضيف دون أن يتعاطف معهم أو يذوب فيهم.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:44 AM
4 ـ ازدواجية المعايير والنسبية الأخلاقية:

أ ) يتعامل أعضاء الجماعات الوظيفية مع أعضاء المجتمع المضيف بشكل موضوعي محايد لا يتسم بأي التزام أخلاقي. فالمجتمع المضيف بالنسبة إليهم هو مادة نافعة وشيء مباح لا يتمتع بأية قداسة ولا حرمة له يُعظِّمون من خلاله منفعتهم ولذتهم دون أي اعتبار لمنظومته الأخلاقية التي لا يشعرون تجاهها بكثير من الاحترام (فهي أحد أسباب عزلتهم واستبعادهم). وفي الوقت نفسه، نجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية يلتزمون تجاه جماعتهم بقوانين أخلاقية صارمة، فأعضاء الجماعة محل قداسة ولهم حرمتهم الواجب مراعاتها.

ب) يُلاحَظ أن أعضاء المجتمع المضيف يشعرون بحرمة إخوانهم من أعضاء المجتمع، وأن المعايير الأخلاقية التي تسري على تعاملاتهم فيما بينهم لا تسري على أعضاء الجماعة الوظيفية، فهم مجرد مادة نافعة، ولذا فلا قداسة لهم ولا حرمة. ويُعظِّم المجتمع منفعته ولذته على حسابهم دون أي اعتبار لقيمهم الأخلاقية.

جـ) يَنتُج عن ذلك ازدواج المعايير الأخلاقية (ونسبية أخلاقية) إذ يتبنَّى كل من أعضاء المجتمع وأعضاء الجماعات الوظيفية معيارين مختلفين للحكم. فنجد أن أعضاء جماعات الغجر مثلاً يسرقون من أعضاء المجتمع ولكنهم لا يقومون أبداً بممارسة هذا النشاط الإجرامي فيما بينهم، ويُقال إن الشيء نفسه ينطبق على مهربي المخدرات. وقد تبيح الجماعة الوظيفية الإقراض بالربا الفاحش لأعضاء المجتمع المضيف وتحرِّمه بين أعضائها. والمجتمع المضيف يفعل الشيء نفسه، فهو يحتفظ بطُهره وتراحُمه وإحساسه بقداسة أعضائه، بينما يُخضع أعضاء الجماعة الوظيفية لمجموعة من القيم النفعية والمادية بهدف تعظيم العائد من وجودهم. فالآخر (سواء من منظور الجماعة الوظيفية أو مجتمع الأغلبية) مدنَّس مباح يقع خارج نطاق المحرمات والمطلقات الأخلاقية.

ساجدة لله
2010-10-24, 03:44 AM
5ـ الحركية:

أ ) يتسم أعضاء الجماعات الوظيفية بالحركية فهم لا يرتبطون بالمكان/الوطن الذي يعيشون فيه، فهم يُجلَبون إليه ويُطردون منه ببساطة، فهم مجرد آلة نافعة لا قيمة لها في ذاتها تُنبَذ حين ينتهي نفعها. وإذا كان المجتمع المضيف لا يعترف بإنسانيتهم المتعينة ولا يضع فيهم ثقته قط، فهم بدورهم لا يدينون له بالولاء.

ب) في معظم الأحيان، يتوقف وجود أعضاء الجماعة الوظيفية على هذه الحركية. فعضو الجماعة، كجندي مرتزق أو جامع ضرائب أو رائد أو مستوطن، لابد أن يكون دائب الحركة لا جذور له في وطن أو أرض.

جـ) يحس عضو الجماعة الوظيفية دائماً بعدم الأمن وانعدام الانتماء وبأنه يعيش في مسام المجتمع وهامشه لا في صميمه وقلبه، أي بأنه فيه وليس منه، يعمل فيه دون أن يشارك في قراراته، ويؤدي كل هذا إلى زيادة حركيته وتَناقُص ولائه. ويمتد ولاؤه إلى الوظيفة وحسب. وقد عبَّر أحد المؤرخين عن موقف يهود جنوب أفريقيا من وطنهم بأنهم يجلسون دائماً على حقائبهم (استعداداً للرحيل). وفي تفسير هذا، تُقال العبارة اللاتينية «أوبي بيني أوبي باتريا ubi bene ubi patria» (حرفياً: «أينما تُوجَد مصلحتي يُوجَد وطني») أي «المكان الذي يخدم مصلحتي هو وطني».

د) تؤدي الحركية (والغربة) إلى تَركُّز أعضاء الجماعات الوظيفية في وظائف بعينها في قمة الهرم الإنتاجي، وهي وظائف ذات عائد سريع ومباشر وتتسم بإمكانات النمو وتتطلب رأس مال سائلاً يمكن نقله بسـهولة (أحجار كريمة ـ تُحَف ـ معادن ثمينة ـ أدوات إنتاج خفيفة ـ مقدرات عقلية... إلخ). ولذا، فإن أعضاء الجماعات الوظيفية لا يعملون عادةً بالتعدين أو الزراعة، وإن عملوا بالزراعة فإنهم عادةً ما يتخصصون في زراعة المحاصيل التي تُزرَع بهدف الاستثمار أو في المحاصيل ذات العائد المباشر، ولا يستثمرون البتة في المشاريع التي تتطلب استثمارات بعيدة المدى، كما أنهم لا يُوجَدون في الوظائف الأساسية في المجتمع ولا في القطاعات الأولية في الإنتاج.